الوصايا المقترحة لعلاج الغلو والانحراف الفكري
في المجتمع الإسلامي المعاصر –الحلقة الخامسة
وصايا لعلاج الغلو وانحراف الفكر السياسي-الجزء الثاني
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد: هذا هي الحلقة الخامسة والأخيرة وهذا هو الجزء الثاني وفيه نواصل بيان أطروحتنا لعلاج الغلو وانحراف الفكر السياسي والله المستعان
4-تجريم وتحريم تكريم عظماء الشر من السياسيين والعسكريين والفنانين والعلماء والمثقفين وغير ذلك المعادين للإسلام وشريعته كقدوة في وسائل الإعلام المختلفة:
والسؤال لماذا؟
لأنه يؤدي لظهور جيل يري العدل والخير ضعف وفتور والشر ومحاربة الدين عظمة وارتقاءـ، ولا يغيب ما في هذا التكريم من خفايا سياسية للسيطرة وإهانة الرموز الأخرى للعداء بينهما لما يوجد بينهما من تضارب في المصالح والأيديولوجيات.
والواجب علي أهل الحل والعقد علاج هذا الخلل الذي علا فيه أهل المنكر علي أهل المعروف وصار أهل الفن والطرب والخلاعة وأهل الانحراف الفكري من العلمانيين والشيوعيين ومن جري مجراهم قمم يشار لها بالبنان بينما العلماء التي كانت لهم بصمات في شتى العلوم والمعارف العلمية والإنسانية عبر التاريخ البشري من علماء الأمة النوابغ سلفاً وخلفاً ويشهد بنبوغهم وعبقريتهم اليوم في عالمنا المعاصر الكثير في الداخل والخارج، فما الذي يمنع من تكريمهم أو الحديث عن سيرتهم.
لماذا ملء السمع والبصر في مدارسنا وجامعتنا نجعل من اسياد الشر هامة وقامة؟
واضرب مثال علي ذلك بالزعيم السياسي النازي "ادلف هتلر "والقائد العسكري الفرنسي "نابليون بونابرت" في مجتمعاتنا سيرتهم وعظمتهم رغم كفرهم وحبهم لسفك الدماء يعلمها القاصي والداني بينما القائد العسكري الفذ المسلم "صلاح الدين الأيوبي" لا يعرف شبابنا وأولادنا حقيقة سيرته وعظمته بل يتم تلويث سيرته العطرة علي صفحات الجرائد من خطباء الفتنة لغرض دنيء ولا نري من يكرمهم ويطلب من الناس الاقتداء بهم فلا ريب أن القدوة الصالحة عنصر رئيسي ذو أهمية بالغة في البناء والتربية.
5-الحد من حب الامارة والمسئولية لمن ليسوا من أهلها ولا قادرين عليها:
أن حب المسئولية والسيطرة والزعامة سبباً لكوارث كثيرة أصابت البشرية لأن من أثار ذلك ومظاهره انتشار العنف والتخريب وزعزعة الاستقرار بغية الاستيلاء علي سدنة الحكم والتحكم في مصائر البلاد والعباد بديكتاتورية تحرق الأخضر واليابس.
ومن ثم أري ضرورة وضع معايير وشروط لمن أراد ممارسة السياسة والاندماج في العمل السياسي لخدمة الوطن والمواطنين فالمسئولية أمانة والقائم عليها لا يضر نفسه فقط بسبب فشله في تطبيقه لسياسته وأدراك لمسئوليته أمام الله تعالي ثم الناس الذين وثقوا به لأي سبب من الأسباب بل يضر الكثير معه ولذلك قال النبي-صلي الله عليه وسلم منصحاً أبو ذر-رضي الله عنه-" يا أبا ذر إنك ضعيف وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" (1 )
ونكرر وصيتنا للإصلاح من منظومة السياسة بحسن اختيار السياسيين من الحاكم فما تحته بوضع شروط وآليات لمن انتخب من قبل ذلك شعبياً من لجنة مركزية تضم علماء وقضاء وجهابذة من أهل السياسة الموثوق فيهم يختارهم الشعب بالبيعة المباشرة وتكون لها-أي اللجنة- وضع دستوري وشرعي معترف به للراعي والرعية قبل الدخول في دهاليز السياسة وخفياها تقوم علي النظر في قدرته وسعة العلم الشرعي والدنيوي والالمام بالسياسة وخفاياها التي تجعله مؤهل لهذه المسئولية والامانة فضلاً عن السيرة الحسنة والصلاح والتقوي وما أشبه هذا فأن استطاع اجتياز الشروط وحاز رضا هذه اللجنة بأغلبية الاعضاء فهو مؤهل سياسيا وشرعياً لممارستها فهي- أي اللجنة -تقوم بنفس الدور الذي قام به النبي-صلي الله عليه وسلم- بنهي أبو ذر لضعفه ولكن لأن النبي معصوم واللجنة غير معصومة فينبغي وضع في الاعتبار التظلم وآليات ذلك ليسود العدل بين الجميع دون غبن وكل مجتمع حسب أحواله وعاداته وإمكانياته المختلفة والله المستعان.
6-إحياء مبدأ الثواب والعقاب بتطبيق الشريعة الإسلامية دون تسويف:
كثير من الدساتير أو القوانين الوضعية في أمتنا الإسلامية إلا من رحم ربي تنص بعض موادها" أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع" وقد تختلف الصياغة من بلد لبلد ولو اتخذنا مصر نموذج لوجدنا هذه المادة موجودة في الدستور المصري الحالي(14032هـ- سنة 2014 م) في مادتها الثانية وفيه
"الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع " ولكن تجد ما يناقضها في مواد الدستور نفسه أو القوانين المتفرعة منه مثل المادة الرابعة في الدستور وفيها:
"السيادة للشعب وحده، يمارسها ويحميها، وهو مصدر السلطات، ويصون وحدته الوطنية التي تقوم علي مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وذلك علي الوجه المبين في الدستور".
وبتدبر النص تجد فيه من ضيق الأفق والتناقض الصارخ الكثير لأننا بذلك نضع الشيء وضده داخل الدستور، فيولد متخبطاً بلا معني فمثل هاتان المادتان لا يمكن أن يجتمعا، فإمٌا أن تكون الشريعةَ الإسلاميةَ هي الحاكمة ومصدر التشريع والسلطات كلها ومهيمنة علي كل القوانين والتشريعات، وإما أن يكون الشعب هو الحاكم ومصدر التشريع والسلطات.
ويأمل المفكر الفرنسي المسلم " روجيه جارودي من الأمة الإسلامية أن تعود لعزتها بتطبيق الشريعة عن القوانين الوضعية التي هي من فكر البشر الذي يقتل بعضه بعضاً فقال" وهذه الامة تحمل في نفسها الوعد بالتغلب علي المرضين اللذين يمكن أن يقود الحضارة الغربية إلي الدمار وهي: " الوضعية " التي تقود إلي الياس بسبب غياب الهدف،لأنه عند تجريد البعد السموى للإنسان حولت الوضعية العلم إلي العلموية والتقنية إلي السلطة التقنية technaratie والسياسة إلي الميكافيلية، و " الفردية " التي تقود إلي صراع الكل ضد الكل، وإلي " توازنات الخوف ".
هذا هو رهان تكامل الإسلام لمستقبل مجتمعاتنا: سمو ضد الوضعية، وشمولية ضد الفردية. ".اهـ (2 )
قلت: وأن لم يتم تطبيق شرع الله تعالي كما تنص دساتير الأمة في ارضها نصاً وروحاً وليس كلمات علي الورق فقط فلا مجال للحديث عن الثواب والعقاب في الشريعة الربانية لإصلاح الراعي والرعية.
7-منع أي مميزات للممارسين للعمل السياسي حكاماً أو نواباً أو ما اشبهم في المسئولية تجاه الرعية للحد من التنافس الشرس وغير الأخلاقي الذي يهدف إلي الانحراف أو الغلو في استغلال المنصب للمصلحة الشخصية وليس للمصلحة العامة.
ولا ريب أن هذا الأمر محسوس وفساد السياسيين واستغلالهم لمناصبهم ملء السمع والبصر في العالم كله وليس في مجتمعاتنا الإسلامية فقط.
والفساد السياسي بمعناه الأوسع هو إساءة استخدام السلطة العامة الممنوحة للسياسي كمنصب نائب في البرلمان أو وزير وما أشبه هذا لأهداف غير مشروعة لتحقيق مكاسب شخصية.
واكثرها شيوعاً هي المحسوبية والرشوة والابتزاز وممارسة النفوذ والاحتيال ومحاباة الأقارب.
وربما تؤدي المميزات التي يحصل عليها السياسي كالحصانة البرلمانية وهي نوع من الحماية القانونية التي يعطيها الدستور لنواب الشعب في البرلمان كنوع من الحماية السياسية والقانونية حتى يستطيع النائب أن يؤدي عمله دون خوف من العقاب، ولكنها سلاح ذو حدين فربما لفساده ينحرف عن الصواب والحق فيستغل ذلك من أجل الثراء السريع في تسهيل النشاطات الإجرامية مثل الاتجار بالمخدرات وغسيل الأموال والدعارة وغير ذلك مما نسمعه ونراه من واقع أليم.
ويكون الحل في قطع السبيل عن هؤلاء بجعل الممارسة السياسية لمن يبغي حقاً خدمة بلده ووطنه وقبل ذلك رضا ربه القائل-عز وجل-: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إلي اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }(3 ).
ودون أي مصلحة أو أنانية وينبغي نـزع هذه المميزات التي يحصل عليها البرلماني وتلك الحصانة التي تفسده فلا تكون إلا في البرلمان فلا يؤخذ بما يقول عند مناقشة المسئول الحكومي في حدود الآداب البرلمانية والشرعية أما خارجه فهو كالأجير للشعب يقوم علي خدمته وله مالهم وعليه ما عليهم وليس من عمله إلا مرتبه الذي ينفق منه علي نفسه وأهله مثله كمثل حال الجميع لا فارق بينه وبين مواطنيه إلا بالتقوي والعمل الصالح .
ونحن علي يقين أن كل ما ذكرناه هنا من طرق ووسائل لعلاج الغلو والانحراف السياسي لن ترضي أعداء الله و الدين كبراً وعلواً وكفي بقوله تعالي ردعاً لهؤلاء:{ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ }(4 )
ونلتقي أن شاء الله في الأجزاء التالي بطرح الوصايا والحل الإسلامي من رؤيتنا الخاصة علي بقية الأصعدة المؤثرة في المجتمع والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
-----------------
(1 ) -أخرجه مسلم في المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"-(برقم/ 1825)- باب كراهة الإمارة بغير ضرورة -تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي- نشر/ دار إحياء التراث العربي – بيروت- الطبعة الأولي سنة/ 1374هـ 1955م.
(2 ) - الإسلام والقرن الواحد والعشرين –شروط نهضة المسلمين(ص: 25)-روجيه جارودي-ترجمة كمال جاد الله-نشر الدار العالمية للكتب والنشر- القاهرة
(3 ) - فصلت:33
(4 ) – الأنعام:57