
الغلو والانحراف الفكري المادي المعاصر
الأسباب والعلاج(1)
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد: هذه هي الحلقة الرابعة وموضوعها خطير وهو الوجه الثاني للعملة فكما كتبنا عن الغلو و الانحراف الفكري الديني ووضحنا أسبابه وطرق علاجه نبين هنا الغلو والانحراف الفكري المادي المعاصر وأسبابه وعلاجه ولعدم التطويل نجعلها مقسمة علي أربعة أجزاء –وهذا هو الجزء الأول منها-وننشر بقيتها متتابعة ومسلسلة اليوم ، وينبغي أن نوضح أمر مهم في هذا البحث وهو أن هذه الحلول دواء مر لا مفر منه لأهل الحل والعقد ولمن يهمه الأمر وأن صدقت النيات في علاج التطرف والغلو ليستقيم حال البلاد والعباد ولا ينبغي تجاهل الانحراف الفكري المادي ومحاربته جنبناً إلي جنب مع الانحراف الفكري الديني الذي تركز عليه وسائل الإعلام الخبيثة وخطباء الفتنة وأصحاب الاجندات الخاصة ، ونقولها بكل صراحة من يريد للمسألة أن تظل عالقة ويكتفي باتهام الدين وتعاليم الشرع من نصوص الوحيين أو كتب التراث للعلماء المسلمين سلفاً وخلفاً من أهل العلم الربانيين والقول أنهم السبب في التطرف والغلو ثم هم يفتحون الباب لتطرف اكثر خطرًا وفتكاً علي الهوية من التطرف الديني وهو التطرف الفكري المادي فأقولها بكل شفافية ككاتب وداعية لا أملك غير قلمي وأحب هذا البلد بكل ذرة من قلبي وأخاف عليه "أن من يشجع هذا الفكر منافقاً وعديم الشرف والانتماء ولا يهمه ألبته استقرار البلاد والعباد ولا علاج امراضها "وحديث هؤلاء عن العلاج كلمة حق يراد بها باطل والحق أحق أن يتبع ونحن لا نكتب للترف الفكري بل لوضع أهل الحل والعقد أمام مسئولياتهم التاريخية وليشهد الله أننا قد بلغناهم و نبتغي الحق ولا ننحاز لفكر أو جماعة معينة بل الحق الصراح الذي يبينه بجلاء كتاب الله وسنة رسوله –صلي الله عليه وسلم-وبيان أن ديننا فيه الحل وأن تهاون بعض أهل العلم ممن يتولى مسئولية البيان في هذا البلد وغيرهم في بلاد الإسلام فأن الله غالب علي أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون .
ولا يخفي علي اللبيب أن الانحراف المادي لا يعترف بالشريعة ويري الدين مجرد طقوس لا دخل له في دنيا الناس وتجد أنصار هذا الفكر يشككون في الشريعة كميراث الرجل وحجاب المرأة وسفرها دون محرم وغير ذلك كثير.
وأصحاب هذا الانحراف لا يؤمنون بالله بل ويحاربون المؤمنون به ،فالمادية لا علاقة لها بجمع المال أو بالإقبال على الدنيا كما قد يتوهم البعض بل الفلسفة المادية تقوم أساساً علي نظرية أن المادة هي سبب الحياة الطبيعية والبشرية، ومن ثم فهي ترفض الإله بوصفه شرطاً من شروط الحياة، كما أنها ترفض الإنسان المؤمن به-عز وجل- كخالق باري ولذا فالفلسفة المادية ترد كل شيء في العالم إلي الإنسان والطبيعة.
ولقد صنعوا لأنفسهم آلهة أخري مثل عبادة المال وطغيان العلم وما أشبه لشعورهم بالضعف والنقص ولكن مهما ظهر من كيدهم وغرورهم فلن يغنيهم عن الله شيئاً كما قال تعالي:{ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ *أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ }( 1)
يقول السعدي في تفسيرها ما نصه: { فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ } أي: كيدهم في نحورهم، ومضرته عائدة إليهم، وقد فعل الله ذلك -ولله الحمد- فلم يبق الكفار من مقدورهم من المكر شيئا إلا فعلوه، فنصر الله نبيه ودينه عليهم وخذلهم وانتصر منهم.
{ أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ } أي: ألهم إله يدعى ويرجى نفعه، ويخاف من ضره، غير الله تعالى؟ { سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ } فليس له شريك في الملك، ولا شريك في الوحدانية والعبادة، وهذا هو المقصود من الكلام الذي سيق لأجله، وهو بطلان عبادة ما سوى الله وبيان فسادها بتلك الأدلة القاطعة، وأن ما عليه المشركون هو الباطل، وأن الذي ينبغي أن يعبد ويصلى له ويسجد ويخلص له دعاء العبادة ودعاء المسألة، هو الله المألوه المعبود، كامل الأسماء والصفات، كثير النعوت الحسنة، والأفعال الجميلة، ذو الجلال والإكرام، والعز الذي لا يرام، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الكبير الحميد المجيد.اهـ( 2)
قلت: وفي عالمنا المعاصر الكثير من الفلسفات والأفكار الإلحادية المادية كالشيوعية التي لا تؤمن بوجود خالق وهذا انحراف عن الدين لأن هناك فئة من المسلمين في عالمنا المعاصر تؤمن بها وتدافع عنها، وهم منا ويتكلمون بألسنتنا لا يجدون حرجا ولا غضاضا في أن يكون الواحد منهم مسلما ماركسياً-نسبة لكارل هنريك ماركس مؤسس الشيوعية الحديثة، والرجل الأول فيها فالعالم يعرفه بأنه أبو الشيوعية، وأنها إليه تنسب وهناك شخصيات مهمة وذات أثر في نشأة الشيوعية والتمكين لها وأشهرها لينين، وتروتسكي، وستالين.
ولا ريب في انحراف هؤلاء الناس الذين يريدون أن يجمعوا بين الإسلام والشيوعية لأنه ببساطة لا يجتمع البتة ولا يستقيم أبداً اجتماع الكفر بالله والإيمان به كما لا يستقيم اجتماع النار بالماء فكلاهما متناقض مع الآخر كماً وكيفاً.
والحاصل أن الفلسفة المادية تُشكِّل البِنْيةَ الفكرية والنموذج المعرفي الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة، كالماركسية والبرجماتية والداروينية والوجودية وغير ذلك، والعجيب أن هذه الفلسفة الإلحادية قد ارتبطت في عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدُّم والتسامح... إلخ
وهذا ضلال فكري وانحراف عن الشرع وها هي بعضاً من أسبابه ومظاهره بإيجاز شديد وعلي سبيل المثال مع بيان علاجها بتحكيم الشريعة الربانية بالشرح والبيان لحاجة الأمة إلي ذلك لوضع اطروحات وآليات التصدي لها والله المستعان.
أسباب ومظاهر الغلو والانحراف المادي:
من هذه الأسباب التي نلمسها عن قرب ونري خطورتها علي المدي الطويل علي شبابنا أن لم نبادر بعلاجها بلا تسويف نصراً للدين وردعاً للمنحرفين ما يلي بإيجاز شديد:
1-ضعف الدولة في محاربة الإلحاد خوفا من الضغوط الخارجية والداخلية من النخبة تحت شماعة حرية الاعتقاد والتعبير الذي لا يحدها حد.
2-علمنة الدولة وسيطرة النخبة العلمانية علي مفاصلها.
3- ضياع عقيدة الولاء والبراء من القلوب.
4-تكريم أصحاب الانحراف ورموزهم الفكرية كمثقفين وادباء ليقتدي الشباب بهم.
5-محاربة العلماء الثقات في دعوتهم وكشفهم لفساد أفكار النخبة المثقفة بحجة التطرف والتخلف وافساد الشباب عن وسطية الإسلام وسماحته.
6-محاربة الملتزمين ووضع العراقيل لهم والسخرية من مظهرهم كالجلباب والحجاب واللحية والنقاب لتنفير الناس من طريقهم.
7-كثرة الدارسين في الخارج وعودتهم الي الوطن بأفكار وتقاليد لا تناسب ديننا ولا مجتمعاتنا الشرقية ومحاولتهم لغربلة اخلاقنا بحجة التطور والتقدم.
8-الفساد في الوسط الإعلامي وتأثيره علي القرارات المصيرية للأمة.
9-ضعف الوازع الديني والردع التربوي منذ الصغر.
10-فساد المنظومة التعليمية ومناهجها التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
وما ذكرناه هنا من أسباب ومظاهر وغيرها مما لم نذكره معلومة للقاصي والداني ويهمنا بيان علاج هذه الأسباب وغيرها ووضع آليات التنفيذ لمن بيده الحل والعقد لردع واقتلاع جذور هذا الخطر الإلحادي المادي الذي أفسد شبابنا ومازال وانحرفوا عن طريق الرشاد لطريق مظلم باهت لا نهاية له وسيتخبط في جوانبه كالمخمور بسكرات الهوى وفقه الضلالة إن لم نأخذ بيده ونضيء له شمعة يبصر بها نور الهدي وطريق الحق المبين.
وفي الجزء الثاني والثالث من هذه الحلقة نطرح الأسباب والعلاج لمسألة الغلو والتطرف الفكري المادي والله المستعان والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي النبي الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين
--------------
(1 ) -الطور 42:43
(2 ) - نظر " تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/ 42)- الناشر : مؤسسة الرسالة- تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق- الطبعة : الأولى 1420هـ -2000 م.