8-حقيقة التوكل على الله لمن عقل
الحمد لله رب العالمين وكفي والصلاة والسلام علي من اصطفي وبعد..
إن حقيقة التوكل ومفهومه السليم غلط في عقول وقلوب الكثير من العباد إلا من رحم الله تعالى.
ولان من الناس من أغتر برحمة الله وحسن الظن به دون عمل أو طاعة.
ولأن منهم من ترك الأخذ بالأسباب وتواكل على رب الأرباب..
ولأن منهم من يتحجج بالقدر ليبرر به ما يرتكبه من معاصي وذنوب..
لهذا كله وغيره لا عجب أن تصاب قلوب هؤلاء بالأحزان والهموم.
والبداية الصحيحة أن يعرف الإنسان حقيقة التوكل ويروض قلبه ونفسه على التوكل الحق ولا يتواكل عليه تاركاً الأسباب والمسببات.
يقول الغزالي في الإحياء: التوكل مشتق من الوكالة يقال وكل أمره إلى فلان أي فوضه إليه واعتمد عليه.. فمعنى التوكل هو اعتماد القلب على الوكيل وحده في كل شيء. انتهى
هذا والإنسان بطبيعته خلق ضعيفاً..
فربما تغلق أمامه كل الأبواب ويفقد الأمل في تحقيق آماله وأحلامه، ويصاب قلبه بالإحباط واليأس وتصيبه الهموم والغموم..
يصبح عاجزاً لا حول له ولا قوة.
إلى من يلجأ؟!
فأي مخلوقاً مثله عاجز ويفتقر إلى الله. إذاً ليس أمامه إلا من بيده الأسباب والمسببات، الذي آمره بين الكاف والنون..
أن أراد شيئاً فإنما يقول له "كن فيكون"
هذه هي حقيقة التوكل على الله بين العبد وربه..
العبد الذليل يتضرع إلى الرب الجليل.
العبد الفقير يسأل الرب الغني.
العبد الضعيف يستغيث بالرب القوي.. فلا ملجأ له إلا إليه سبحانه فهو القادر على كل شيء..
هو وحده الذي يكشف السوء عن عباده ويفك الكرب عنهم ويفتح لهم أبواب الرزق، ويشرح صدورهم إلى الحق والإيمان ويذهب من قلوبهم الهموم والأحزان..
ومن يتوكل عليه فقد أفلح وفاز، ومن لجأ وتوكل على غيره فقد خسر وخاب وحسبنا الله ونعم الوكيل.
قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3] وقال تعالى ﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾ [الفرقان: 58].
والمتوكل على الله حق توكله ليس له ثواب إلا الجنة وربما كان من الذين يدخلون الجنة بغير حساب كما قال - صلى الله عليه وسلم -في الحديث الصحيح. عندما أخبر الصحابة رضى الله عنهم أجمعين بأن هناك من أمته سبعون ألف يدخلون الجنة بغير حساب أو عذاب فسألوه عنهم فقال: "هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون" (أخرجه البخاري11/ح6541/ فتح) ومسلم (1/ إيمان /199/ح/374).
ومعنى يتطيرون: أي يتشأمون، والمقصود بعدم الرقى في الحديث الذي فيه شرك ودجل وبغير كلام الله واللسان العربي.
كما إن الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو لنا أسوة حسنة أنه كان يتوكل على الله تعالى في كل أموره وأحواله..
فكان إذا أراد الخروج من المنزل يقول: "بسم الله توكلت على الله اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي" أخرجه أبو داود (4/ح5094) وإسناده صحيح.
وهذا دعاء شامل يتوكل فيه الإنسان على خالقه من خروجه من المنزل حتى عودته من الضلال والزلل والظلم والجهل في يومه هذا.
ثم إن أراد المرء أن ينام ويأوي إلى فراشة لا ينس أن يتوكل على الله بقلبه وروحه قائلاً ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم -يقوله عند النوم: "اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجاْ ولا منحا إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" أخرجه البخاري (11/ح6315/فتح) ومسلم (4/ذكر/2081-2082/ح56).
ومن ثم.. فأن التوكل على حقيقته فريضة ربانية وعلى المرء أن يتوكل على الحي القيوم حق توكله بكل قلبه وجوارحه فهو بيده مقادير كل شيء ...
فإذا أصاب جسده الأمراض والابتلاءات فليقل حسبي الله ونعم الوكيل...
وإذا حلت به مصيبة في النفس أو المال فليقل حسبي الله ونعم الوكيل. وهكذا.
وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال: "حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل" أخرجه البخاري (8/ح4563/ فتح).
وهناك أمر على جانب عظيم من الخطورة دائما ما يتعلق القلب به لهوي أو ضعف إيمان وينبغي الحذر منه لأنه يجلب الاحزان والآلام لما فيه من ضلال وآثام في الدنيا والآخرة إلا وهو الاغترار برحمة الله وحسن الظن به.
وأكرر هذا أمر على جانب عظيم من الخطورة ولا أغالي إن قلت أن هناك مئات الألوف إلا من رحمه الله يغتر برحمة الله وبحسن الظن به ويتواكل عليه ولا يجتهد في الطاعات ولا يحترز من المعاصي، بل هو غارق فيها من رأسه إلى قدمه ومع ذلك يقول لك أنا قلبي أبيض والله غفور رحيم..!!
قلبه أبيض وهو لا يصلي!!
.. قلبه أبيض وهو لا يصوم رمضان!!
قلبه أبيض من يشرب الخمر ويلعب الميسر مالهم كيف يحكمون!!
قال تعالى: ﴿ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 23].
ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد جاء في الحديث الصحيح عن أبي أمامه قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة فقالت "لو رأيتما رسول الله في مرض له وكانت عنده ستة دنانير أو سبعة دنانير فأمرني رسول الله أن أفرقها فشغلني وجع رسول الله حتى عافاه الله ثم سألني عنها فقال: ما فعلت؟ أكنت فرقت الستة الدنانير؟ فقلت لا والله لقد كان شغلني وجعك قالت: فدعا بها فوضعها في كفه فقال "ما ظن نبي الله لو لقي الله وهذه عنده" وفي لفظ "ما ظن محمد بربه لو لقي الله وهذه عنده" أخرجه أحمد وصححه الألباني في الصحيحة (1014).
النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده ستة دنانير لا يدري ظن الله به عندما يموت وهي عنده وقد غفر الله له ما تقدم وما تأخر من ذنبه فماذا يكون حال الذي يسرق ويختلس ويأكل أموال الناس بالباطل..؟!
وكيف يكون ظنه بربه، وقد تساوى الحلال والحرام عنده وحسبنا الله ونعم الوكيل.
يقول أبن القيم في "الداء والدواء" "فلو كان معول حسن الظن على مجرد صفاته وأسمائه لا أشترك في ذلك البر والفاجر، والمؤمن والكافر، ووليه وعدوه، فما ينفع المجرم أسمائه وصفاته وقد باء بسخطه وغضبه وتعرض للعنته، ووقع في محارمه وانتهك حرمانه، بل حسن الظن ينفع من تاب وندم وأقلع وبدل السيئة بالحسنة واستقبل بقية عمره بالخير والطاعة ثم أحسن الظن بعدها فهذا هو حسن الظن والأول غرور والله المستعان".
فالتوكل الحق يؤدي إلى صلاح القلوب واستقامتها علي طريق الله - تعالى - وجلاء أحزانها .
وأيضاً لأنه أن صلح القلب صلحت جوارحه وما في ذلك من سعادة المرء وفلاحه في الدارين.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله وسلم وصحبه أجمعين.
وكتبه/ سيد مبارك