حديث مع النفس
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، مَن يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ من أصعب اللحظات في حياة الإنسان اللحظاتِ التي يحاسِب فيها نفسه؛ لأنَّها لحظاتُ صِدْقٍ وصَفاء مع النَّفس، لا يدخل فيها رياءٌ، ولا كَذِبٌ، ولا خداع، ولا تدليس، ولا هوًى، ولا شيطانٌ يستطيع أن يفسد هذه اللحظات الطيبة، إنْ أخْلَصَ الإنسانُ النِّيَّة، وحاسَب نفسه قبل أن يُحاسِبَه رب العباد سبحانه.
نعم، إنَّها لحظاتُ صِدْق لا مصلحةَ للإنسان فيها أن يكذب على نفسه ويخدعها؛ لأنه يعرف حقيقتها، فهي نفسه التي بين جنبيه، وليس يخاف من مخلوق أن يطلع على عيوبها؛ لأنه لا يعلم ولا يشعر ما في نفسه إلا هو والله - جَلَّ وعلا - علام الغيوم الذي لا تخفى عليه خافية.
فهل سألت نفسك يومًا في مثل هذه اللحظات، وقلت لها: يا نفسي، ماذا تريدين؟ وماذا تتمنين من الدنيا؟
هل سألت نفسك يومًا وقلت: يا نفسي، آلجنة تريدين وما فيها من نعيمٍ مقيم، أم النار وما فيها من عذابٍ أليم؟ ماذا كان جوابها يا مسكين وهي تدفعك دفعًا إلى نار السعير؟
هل سألت نفسك يومًا: لماذا أنتِ متكبرة على عباد الله؟
ألا تعلمين أنَّ الجنةَ لا يدخلها مَن كان في قلبه مثقالُ ذرة من كبر، وإنما يدخلها مَن تواضع لله وقال لله وعمل لله.
وأين أنت من قوله - جَلَّ وعلا -: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83]؟!
وأين أنت من قول الصادق المعصوم - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يَدخلُ الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر))؛ أخرجه مسلم، ح/133.
هل سألت نفسك في لحظة حسابك إياها، وقلت لها: يا نفسي، عمر الدنيا محدود، ونعيم الآخرة ممدود، وهي خير وأبقى.
• يا نفسي، اتَّقي اللهَ ولا تقولي إلا حقًّا.
• يا نفسي، استقيمي على طريق الله، واصبري على أشواك الطريق، فالجنة لا يدخلها أحدٌ إلا بمشقة، ولا داعيَ للهموم والغموم، فلا رادَّ لقضاء الله، ومَن رَضِيَ فله الرِّضا، ومن سخط فلا يلومنَّ إلا نفسه.
ألم يقل الله - تعالى -: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ﴾ [الشمس: 7-10]؟!
قلت لنفسي وأنا أرجوها في لحظة حسابي إيَّاها وأحاورها:
• يا نفسي، أنا صاحبك ما يضرك يضرني، وما يسعدك يسعدني، أنتِ مني وأنا منك، ولكنك أمَّارة بالسوء، كما قال ربك وخالقك - جل شأنه -: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53].
• يا نفسي، ما أضعفَك عند الطاعة! وما أشدَّك عند المعصية!
• يا نفسي، أريد رضا الله عني وعنك، وأتمنى شفاعةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم.
• يا نفسي، أتسمعينني؟
• قالت لي: تريدُ طاعة الله يا مسكين، وتتمنى شفاعةَ النبي الأمين؟! كيف وأنت حالُك حالِك؟! وما أكثرَ المعاصي التي أَرْتَكِبُها بسببك! وما أكْثَرَ الشهواتِ التي تَضعُها في طريقي! وما أعمقَ بُحُورَ الفتن التي أغرق فيها وأنت ساهٍ لاهٍ عني!
قلت لها دَهِشًا مَصدومًا: كيف؟! وما هذا البهتان أيتها النفس الأمَّارة بالسوء؟! تلومينني وتعنفينني وأنا صاحبك؟! يا ويلك إنْ لم أروضك لتطيعيني.
قالت: حسنًا أيها المغرور بعملك، تتهمني بالتَّمرُّد وأنا طوعُ أمرِك وهواك؟! ويلٌ لك من نارٍ تَلَظَّى لا يصلاها إلا الأشقى.
قلت لها مُقاطِعًا وقد أخذتني الحميَّة: هذا يكفي والله الذي لا إلهَ إلا هو، أنا أصلي الصلاة في وقتها، وأحافِظُ على الجمُعة والجماعات، وأذكُر الله كثيرًا، وأرتِّل القرآنَ ترتيلاً، وأصبر على البلية من غير شكوى، وأشكرُ عند النعمة، لا أتكبر على أحد ولا أكره أحدًا، لا أظلم ولا أكذب، وليس لي غاية في الدنيا إلا رضا الله.
وكثيرٌ من أحبابي وجيراني وأصحابي حالُهم كحالي، فكيف أيَّتُها النفسُ المتمردة يكون حالي حَالِكًا؟!
قالت: أنت وغيرك قد غرَّكم بالله الغرور، وضحك عليكم إبليس بتلبيسه، أنا وغيري من نفوس أحبابك وجيرانك وأصدقائك قد أضنانا حالُكم وجهلُكم، فأنتم تقولون ما لا تفعلون، وتفعلون ما لا تقولون، وربي وربُّك يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].
قلت لها: ماذا تقصدين؟ أريد توضيحًا.
قالت لي: كما قلت، يَضُرُّني ما يضرُّك، ويسعدني ما يسعدك، وتخيل معي يا مسكين لو أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء في زمانك ورأى حالك وحال أصحابك؟! تخيل معي لو سار النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في شوارعكم ومُدُنِكم ورأى نساءَكم وبناتكم كاسياتٍ عاريات متبرجات بلا حياء وهو الذي حذر وقال: ((إن الله - تعالى - سائلٌ كُلَّ راعٍ عما استرعاه أحَفِظَ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الرجل عن أهل بيته))؛ حسن الألباني إسناده في صحيح الجامع؛ 1774.
وأين أنت يا مغرور بطاعتك من قولِ الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6]؟!
فهل راعيتم الله في بناتكم ونسائكم؟
لماذا لا أسمع صوتَك ودفاعَك وكنتَ منذ لحظةٍ تُعاتبني وتُحمِّلني معصيتك وكسلك وتهاونك؟!
• تخيل يا مسكين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل مساجدكم وقتَ الصلاة، وينظر كيف تصلون وهو القائل: ((صلُّوا كما رأيتموني أصلي))؛ انظر حديث رقم: 893 في صحيح الجامع، فيجد أذان الصلاة وهو من شعائر المسلمين تُمَدُّ حروفُ كلماته مدًّا، فيخرجها عن معناها!
ويجد الناسَ بين الأذان والإقامة عن ذكر الله منصرفين، وفي أحاديث الدنيا يخوضون، وعن الدعاء وهو مستجاب بين الأذان والإقامة صامتين، وعن الصلاة عليه وسؤال الله - تعالى - أن يعطيه الوسيلة والمقام المحمود يومَ القيامة لاهين!
وأين أنت وأصحابك وأحبابك يا مسكين من قول الصادق الأمين: ((من قال حين يسمع النداء: اللهمَّ ربَّ هذه الدعوةِ التامةِ والصلاةِ القائمة، آتِ محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة))؛ أخرجه البخاري ح/579؟
• وتخيل معي وهو يرى - صلى الله عليه وسلم - من يكبر ويقرأ، ومن يركع ويسجد في الصلاة، فلا يجدُ لسُنَّتِه اتَّبعوا، ولا بهديه اهتدوا، وإنما يجد نفوسًا لا تخشع، وألسنةً لا تُحْسِنُ القراءة، وأجسادًا مُتباعدة وكأنَّما أصحابها يصلون فُرادى وليس في جماعة، ويؤم الناسَ في صلاتهم مَن لا يفقه دينَ الله، ولا يحفظ كتابَه ولا يُحسن قراءته.
فإذا خرجوا من المساجد صاروا مسلمين بلا إسلام؛ غيبة ونميمة، وكذب وسب، وطاعة للشيطان.
هل هذا يكفي لتعودَ إلى رشدك ولا تغتر بعبادتك، أو تريد المزيد؟
قلت وأنا محبط وخائف: بل المزيد هداك الله، وأنار بصيرتي؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
قالتْ وقد أشفقت على حالي: تخيل معي لو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ ما تنشره جرائدكم ومجلاتكم من فضائح وكوارث ومصائب؛ فهذه امرأة تجمع بين ثلاثة رجال في وقت واحد وتعاشرهم! وهذا أب يزني بابنته! وذاك شاب يقتل أباه من أجل الميراث!
تخيل لو قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - مقالاتٍ يتجرأ أصحابها على القول على الله بغير علم، ويفتون في الدين بالهوى! تخيل لو قرأ النبيُّ مقالات تُنكِر الشفاعة له وأخرى تَتهكَّم بوجودِ عذاب القبر، وغيرها يَسخَر من النِّقاب والحجاب!
أليس غريبًا أن يعود أبو جهل بعد أن مات من مئات السنين؟ أم إنه له أحفاد في كل عصر وزمان؟!
تخيَّل معي يا مسكين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل بيوتكم، ويرى الرجل يترك زوجته في خلوة مع مَن لا تحل له، ويرى الرجل يجلس بلا حياء هو وأهلُه أمام شاشة التلفاز يشاهدون الأفلام والمسلسلات، وما تعرضه أطباقُ (الدش) من فجور وإسفاف إلى ما بعد منتصف الليل، فلا يستطيعون قيام الليل، ولا يستطيعون صلاة الفجر إلا بعد شُرُوق الشمس، ويهملون ركعتي الفجر وهما خَيْرٌ من الدنيا وما فيها!
ثم قالت لي بحِدَّة: ألَم أقل لك: إنَّكم تقولون ما لا تفعلون، وتفعلون ما لا تقولون؟!
قلت: يا نفسي، صدقتِ وربِّ الكعبة وأنتِ على حق، ولكن دُلِّيني على وسائل النَّجاة لي ولنفوس أصحابي قبل فوات الأوان.
قالت لي: عليك بأربعة أمور ولا تتكاسل عنها:
-1اتَّبع هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله وعمله، وإياك والهوى، فهو يضلك عن الحق، وَضَعْ هذا الآية نُصْبَ عينيك: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
فإياك أن تكون لك أسوة غيره من أهل الدنيا الذين ضَلَّ سعيُهم فيها، ولك في سيرة السلف الصالح وعملهم مصابيحُ تضيء لك طريقك، فهم كانوا على هديه وفعله.
2 - صاحبِ الصالحين، وإياك وأهل السوء، فإنَّهم أهل دنيا، وتذكر قول نبيك - صلى الله عليه وسلم -: ((الرجلُ على دين خليله، فلينظر أحدُكم من يُخالل))؛ انظر الصحيحة (927)، وصحيح الجامع (3545).
3 - أكثر من ذكر الله، فإنه بذكر الله تطمئن القلوب، وتتعلق النفوس بخالقها - جلَّ وعلا - وتذكَّر قوله - تعالى -: ﴿ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28].
وقول الذي لا ينطق عن الهوى: ((مَثَلُ الذي يَذْكُر ربه والذي لا يذكر ربَّه مَثَلُ الحي والميت))؛ أخرجه البخاري، ح/5928.
4 - تعلم العلم، واعمل به، تفلح في الدنيا والآخرة، وكن ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه.
وتذكر قوله - تعالى -: ﴿ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114].
• وقول نبيك - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِس فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ))؛ الترمذي في العلم، ومسلم في الذكر والدعاء.
وهذه أربع وسائل لإصلاح النفوس وترويضها على صراط الله المستقيم، فهل أنت مستعدٌّ لترويضي عليها، ومجاهدة شيطانك على أن نبدأ من جديد، وعفا الله عما سلف؟!
قلت بحماس شديد وقد لمست في نفسي علوَّ همة لم أستشعرها من قبل: نعم وعلى بركة الله.
فهَلُمَّ يا إخواني حاسبوا أنفسكم، واسألوها ورَوِّضوها قبل فوات الأوان، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
وكتبه/ الشيخ سيد مبارك