حلقات الحل الإسلامي لعلاج الغلو والتطرف
الحلقة الخامسة-الجزء العاشر
وصايا لعلاج الغلو وانحراف الفكر الجهادي
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد:
الجهاد فريضة غائبة وهي نوعين جهاد الطلب وجهاد الدفع والمسلمين مأمورين بهما حسب أصول شرعية ولكن من الغلو والانحراف عن مفهوم الجهاد أمور كثيرة نراها في الواقع ولا مسوغ لها من الشرع ولندرك الدواء ينبغي معرفة الداء وكما ذكرنا سلفاً الإنسان عدو ما يجهله وبسبب الجهل بحقيقة الجهاد ضلت جماعات وأمم وارتكبت جرائم ومذابح وسفكت دماء أبرياء بلا جريرة كالأطفال والشيوخ والرجال والنساء كما يفعل تنظيم الدولة المعروف بداعش وليس هذا جهاد إسلامي يرضي الله ورسوله عنه وليس له علاقة بين مفهوم الجهاد الشرعي في الشريعة الربانية السمحة.
وهناك أمر علي جانب عظيم من الخطورة بل هو خديعة كبرى سببها الغلو و الجهل والتدليس بحقيقة الشهادة في سبيل الله تعالي وهو ما يعرف بالعمليات الانتحارية فيقتل المرء نفسه لقتل أو أذية أعداء الله ورسوله-صلي الله عليه وسلم- ثم تري أهل التضليل والفتاوي الشاذة التي لا تستند للدليل الشرعي بل تخالفه بالهوي وتغالي بإطلاق أسم الشهيد عمن خدعوهم باسم الدين والمصيبة أن الجهل سلاح ذو حدين ففي الوقت الذي سمي بعض الجهال أن هؤلاء المخدوعين شهداء لانتحارهم وقتلهم لبعض اليهود من الاعداء خرج بعض الإعلاميين يصف القتلى من اليهود بالشهداء وهكذا خرجت الشهادة لله تعالي بمدلولات أهل الدنيا عن معناها الشرعي بسبب الجهل بحقيقة الشهادة في شريعتنا.
ثم كيف يعقل أن يكون المنتحر شهيداً والله تعالي يقول: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا }(1 )
وأين هؤلاء من قول النبي-صلي الله عليه وسلم-" من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" ( 2)
-يقول العلامة ابن العثيمين في شرجه لرياض الصالحين لحديث الغلام والساحر أن الإنسان يجوز أن يغرر بنفسه في مصلحة عامة للمسلمين، فإن هذا الغلام دل الملك على أمر يقتله به ويهلك به نفسه، وهو ان يأخذ سهماً من كنانته ويضعه في كبد القوس ويقول: باسم الله رب الغلام.
قال شيخ الإسلام "لأن هذا جهاد في سبيل الله، آمنت أمة وهو لم يفتقد شيئا، لأنه مات وسيموت إن آجلاً أو عاجلاً".
فأما ما يفعله بعض الناس من الانتحار، بحيث يحمل آلات متفجرة ويتقدم بها إلي الكفار ثم يفجرها إذا كان بينهم، فإن هذا من قتل النفس والعياذ بالله.
ومن قتل نفسه فهو خالد مخلد في نار جهنم أبد الآبدين، كما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
لأن هذا قتل نفسه لا في مصلحة الإسلام، لأنه إذا قتل نفسه وقتل عشرة أو مائة أو مائتين، لم ينتفع الإسلام بذلك، فلم يسلم الناس، بخلاف قصة الغلام، فإن فيها لإسلام كثير من الناس، فكل من حضر في الصعيد اسلموا، أما أن يموت عشرة أو عشرون أو مائة أو مائتان من العدو، فهذا لا يقتضي أن يسلم، بل ربما يتعنت العدو أكثر ويوغر صدره هذا العمل حتى يفتك بالمسلمين اشد فتك، كما يوجد من صنع اليهود مع أهل فلسطين، فإن أهل فلسطين إذا مات الواحد منهم بهذه المتفجرات وقتل ستة أو سبعة أخذوا من جراء ذلك ستين نفرا أو أكثر، فلم يحصل في ذلك نفع للمسلمين، ولا انتفاع للذين فجرت هذه المتفجرات في صفوفهم.
ولهذا تري ان ما يفعله بعض الناس من هذا الانتحار، نري أنه قتل للنفس بغير حق، وأنه موجب لدخول النار والعياذ بالله، وان صاحبه ليس بشهيد. لكن إذا فعل الإنسان هذا متأولا ظانا أنه جائز، فإننا نرجو أن يسلم من الإثم، وأما أن تكتب له الشهادة فلا؛ لأنه لم يسلك طريقة الشهادة، لكنه يسلم من الإثم لأنه متأول، ومن اجتهد وأخطأ فله أجر.اهـ (3 )
ونكرر دوماً لا يغيب علي اللبيب أن من أعظم الأسباب والمظاهر الناتجة عن هذا الجهاد المزعوم يرجع لفساد التأويل للنصوص الشرعية والجهل بها ومخالفة جهابذة العلماء الذين وضعوا القواعد الأصولية لهذه الفريضة الغائبة عن الأمة ، والأدلة الشرعية في حتمية الجهاد ومشروعيته كثيرة منها على سبيل المثال:
-قوله تعالي:{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }(4 ).
-وقوله تعالي:{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا في التَّوْرَاةِ وَالإنجيل وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أوفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }(5 ).
ومن السنة النبوية:
-حديث عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور» (6 )
- وعنه، رضي اللَّه عَنْهُ، قَال: قَالَ رسولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: «تضمن الله لمن خرج في سبيله، لا يخرجه إلا جهادا في سبيلي، وإيمانا بي، وتصديقا برسلي، فهو علي ضامن أن أدخله الجنة، أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه، نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده، ما من كلم يكلم في سبيل الله، إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم، لونه لون دم، وريحه مسك، والذي نفس محمد بيده، لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة، ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده، لوددت أني أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو فأقتل، ثم أغزو فأقتل».( 7)
قلت: ويتبين لنا مما ذكرنا من آيات وأحاديث أن الجهاد عندما لا يقيد فهو لا يراد به إلا الجهاد في ميدان المعركة للكفار حتماً وهذا هو الأصل وفي يومنا هذا حدث لبس وغموض في فهم المراد من الجهاد، وأعقب هذا الفهم الخاطئ والمبهم ضياع هذا الفريضة التي اعز الله بها الإسلام والمسلمين وقوي شوكتهم فيما مضي والتاريخ طافح بالمواقف والشواهد للقاصي والداني مما يغنينا عن بيانها وإسراد بعضها هنا منعاً للإطالة.
كما ينبغي تعليمه بحقيقة الجهاد في الإسلام وأنه دين سماحة ورحمة وليس دين عنف وإرهاب ودماء كما يقول المغرضين من أحفاد أبو جهل من الحاقدين علي الإسلام من أهله والمستشرقين الكارهين له ويتبين وسطية الإسلام وسماحته إن الجهاد رغم مشروعيته لا يكون إلا للدفاع عن الوطن ورد الاعتداء وهو المعروف عند العلماء بجهاد الدفع وهو فرض عين على كل مسلم ويكون حين يقتحم الكفار ديار المسلمين، فتكون حينئذ المدافعة والمقاومة.
وأما دليل هذا النوع من الجهاد فقوله تعالي:{ وَقَاتِلُوا في سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }(8)
-وقوله تعالي:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِياًّ وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا}(9 )
ولا يكون كما ذكرنا إلا دفاعا عن الوطن ورد الاعتداء ونحوه والترهيب من الجهاد لمجرد الاعتداء دون ضابط شرعي.
بل أن سماحة الإسلام ووسطيته تتجلي في قوله تعالي:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }(10 )
وأما جهاد الدفع فيعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله-فقال ما مختصره: وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا.
فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له شرط، بل يدفع بحسب الإمكان، وقد نص على ذلك العلماء أصحابنا وغيرهم، فيجب التفريق بين دفع الصائل الظالم الكافر وبين طلبه في بلاده.. اهـ (11 )
-ويقول العلامة ابن العثيمين-رحمه الله- ما مختصره وبتصرف يسير: إذا حصر بلدَه عدوٌّ - يعني طوقها وضيَّق الخناق عليها- فإنه يجب على المسلم أن يدافعَ حفاظًا على النفس والدين؛ لأن هذا العدو إذا حصر البلدَ ثم استولى عليه- عياذاً بالله- فإنه قد يضيع معالمه حتى تصبح بلادُ الإسلام بلادَ كفرٍ وإلحاد، ففي هذه الحال يجب على المسلمين أن يدافعوا عن هذا البلد المحصور. اهـ (12 )
قلت: أما جهاد الطلب وهو محاربتهم في ديارهم للدفاع عن امتهانهم لمقدساتنا ورموزنا والدفاع عن حرمة المسلمين وأعراضهم أن لم يراعوها أو حاربوا دعوتنا لهم بالحكمة والموعظة الحسنة بالتحقير والإهانة وقتل العلماء والدعاة أو حبسهم واتهامهم لهم بلا جريرة إلا حقدهم علي الإسلام والمسلمين وما أشبه ذلك أقول أن لم يتمكن المسلمين من تحقيقه لعدم القدرة والاستطاعة والضعف والوهن إلي آخره من معاذير لبعدنا عن مصدري قوتنا القرآن والسنة كما هو واضح ومشاهد في أيامنا تلك فمن رحمة الإسلام وعظمته عدم التهور والاندفاع للجهاد بل ينبغي الصبر والاكتفاء بجهاد الدفع وهو رد العدوان والدفاع عن الوطن
قال ابن العثيمين-رحمه الله: "الجهاد ذروة سنام الإسلام "، يعنى أن المجاهدين يعلون على اعدائهم، ولهذا شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بذروة السنام، لأنه اعلى ما في البعير فالجهاد فرض كفاية إذا قام به البعض من يكفي سقط عن الباقي وأن لم يقم به من يكفي تعين عليه.
ولكن اعلموا ان كل واجب لا بد فيه من شرط القدرة، والدليل على ذلك النصوص من القرآن والسنة ومن الواقع أيضا أما القرآن فقد -قال تعالي: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }(13 ) ـ
وقال تعالي:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }(14 ) ـ
وقال تعالي:{وَجَاهِدُوا في اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}(15 )
يعنى حتى لو أمرتم بالجهاد ما فيه حرج ان قدرتم عليه فهو سهل، وان لم تقدروا عليه فهو حرج مرفوع، إذا لا بد من القدرة والاستطاعة هذا من القرآن، ومن السنة قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا امرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " ـ(16)
وهذا عام في كل أمر لأن قوله: بأمر نكرة في سياق الشرط فيكون للعموم، سواء أمر العبادات أو الجهاد أو غيره.
وأما الواقع فقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-في مكة يدعو الناس إلي توحيد الله، وبقى على هذا ثلاثة عشرة سنة لم يؤمر بالجهاد مع شدة الايذاء له ولمتبعيه عليه الصلاة والسلام وقلة التكاليف؛ فاكثر أركان الإسلام ما وجبت إلا في المدينة، ولكن هل أمروا بالقتال؟ الجواب: لا. لماذا؟ لأنهم لا يستطيعون، وهم خائفون على أنفسهم.
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج من مكة خائفا على نفسه ـ وهذا معروف ـ ولذلك لم يوجب الله عز وجل القتال الا بعد ان صار للامة الإسلامية دولة وقوة {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ـ(17 ).اهـ(18 )
قلت: والحاصل مما ذكرناه يتبين لنا أن أعظم الحلول والوصايا لعلاج أسباب هذا الغلو والانحراف في فهم الجهاد المشروع ممكن أن نوجزها فيما يلي:
1-تشجيع الشباب علي الجهاد المشروع للدفاع عن الدين والوطن والتطوع في الجيش لزيادة كفاءتهم وسقلها وتأهليهم علي أسس عسكرية وتربوية وعقدية صحيحة.
وهذه مهمة العلماء والدعاة والمصلحين وأهل الحل والعقد فكثير من الشباب المخدوع المتحمس لنصرة الدين لا يدري الفارق بين جهاد الطلب وجهاد الدفع!
وبادئ ذي بد نقول أن الجهاد هو ذروة سنام الإسلام والفريضة التي أعز الله بها المسلمين ورفع به رايتهم وقوي به شوكتهم وفي تركه وإهماله ذل وانكسار وأهانه وتحقير للمقدسات والرموز كما هو مشاهد اليوم والجهاد لغة مأخوذ من الْجَهْد أو الْجُهْد، وهو بذل الوسع، والعمل ببذل الطاقة.
وعرفه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-بقوله: "هُوَ بَذْلُ الْوُسْعِ وَهُوَ الْقُدْرَةُ في حُصُولِ مَحْبُوبِ الْحَق".اهـ(19 )
2-بيان صريح واضح من أهل العلم في الأمة ينشر علي نطاق واسع بكل وسيلة عصرية لتصل للقاصي والداني من المسلمين بفساد فهم وتأويل قادة الجهاد المزيف من الجماعات المسلحة الجاهلة بحقيقة الجهاد وشروطه لقلة العلم والفقه وتأويل النصوص علي غير مرادها والتبرؤ منهم وبيان أن الجهاد الشرعي يشترط فيه أذن ولي الأمر.
ويتبين من هذا الأمر أنه لا يجوز لأحد من المسلمين أن يدعو للجهاد أو يخرج بنفسه مخالفا لأمر ولي الأمر ولو كان ظالماً فطاعته واجبة أن لم يستوجب الخروج عنه لسبب تبيحه الشريعة كأن نري منه كفراً بواحاً لنا فيه عند الله برهان ونحو ذلك.
والدليل علي هذا الشرط حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه» ( 20)
وبناء علي ذلك أن أبي ولي الأمر الجهاد لسبب من الأسباب فيلزم الرعية طاعته ويدل علي ذلك ايضاً قوله تعالي:{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأولِي الأَمْرِ مِنكُم}(21 )
وقوله تعالي:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإذا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوه} (22 )
يقول ابن العثيمين-رحمه الله: «الإمام» هو ولي الأمر الأعلى في الدولة، ولا يشترط أن يكون إماماً عامّاً للمسلمين؛ لأن الإمامة العامة انقرضت من أزمنة متطاولة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبد حبشي» ـ( 23)
، فإذا تأمر إنسان على جهةٍ ما، صار بمنـزلة الإمام العام، وصار قوله نافذاً، وأمره مطاعاً، ومن عهد أمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ والأمة الإسلامية بدأت تتفرق، فابن الزبير في الحجاز، وبنو مروان في الشام، والمختار بن عبيد وغيره في العراق، فتفرقت الأمة، وما زال أئمة الإسلام يدينون بالولاء والطاعة لمن تأمر على ناحيتهم، وإن لم تكن له الخلافة العامة؛ وبهذا نعرف ضلال ناشئة نشأت تقول: إنه لا إمام للمسلمين اليوم، فلا بيعة لأحد!! ـ نسأل الله العافية ـ ولا أدري أيريد هؤلاء أن تكون الأمور فوضى ليس للناس قائد يقودهم؟! أم يريدون أن يقال: كل إنسان أمير نفسه؟!
هؤلاء إذا ماتوا من غير بيعة فإنهم يموتون ميتة جاهلية ـ والعياذ بالله ـ؛ لأن عمل المسلمين منذ أزمنة متطاولة على أن من استولى على ناحية من النواحي، وصار له الكلمة العليا فيها، فهو إمام فيها، وقد نص على ذلك العلماء مثل صاحب سبل السلام وقال: إن هذا لا يمكن الآن تحقيقه، وهذا هو الواقع الآن، فالبلاد التي في ناحية واحدة تجدهم يجعلون انتخابات ويحصل صراع على السلطة ورشاوى وبيع للذمم إلي غير ذلك، فإذا كان أهل البلد الواحد لا يستطيعون أن يولوا عليهم واحداً إلا بمثل هذه الانتخابات المزيفة فكيف بالمسلمين عموماً؟!! هذا لا يمكن.
فإذا استنفره الإمام وجب عليه الخروج؛ لقول الله -تعالي-:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا في سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلي الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ* إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(24 ) ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وإذا استنفرتم فانفروا» ـ(25 )
وهذه أدلة سمعية، والدليل العقلي: هو أن الناس لو تمردوا في هذا الحال على الإمام لحصل الخلل الكبير على الإسلام، إذ إن العدو سوف يُقدم إذا لم يجد من يقاومه ويدافعه.اهـ (26 )
قلت: ومن ثم يتبين لنا أن الجهاد تحت راية أصحاب الهوي جهاد غير مشروع بل هو طامة كبري ويستهلك من رصيد الامة وكرامتها الكثير وليس بعيدا عنا ما فعله الخوارج قديماً وما يفعله من صار علي خطاهم ونهجهم حديثاً فأفسدوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
كما قال تعالي:{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ في الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا }( 27)
3-عدم السماح للمتطوعين بالخروج عن طاعة ولي الأمر وتحذير ومحاربة الفئة الضالة بالقوة أن شقوا عصا الطاعة وخرجوا عن أجماع الأمة.
ينبغي منع من لم يرتدع بالكلام والإقناع وأراد الجهاد منفردًا أو مع جماعة متطرفة ومتشددة تتخذ الغلو والانحراف منهجاً من الخروج عن الطاعة وعقابه ولا تسامح مع من يضر أمن الوطن ويخرج عن الجماعة.
وأقول إن المنطق عند كل عاقل ولبيب ومنصف أن أبي هؤلاء الحق بعد بيان العلماء وأولي الأمر والنهي لقسوة قلوبهم التي هي كالحجارة أو أشد قسوة وتعرضوا للمسلمين في ديارهم بأي وسيلة من الوسائل التي تشكل خطرا عليهم وعلى وجودهم وأمنهم وثوابتهم بأن يتم ردعهم بالوسائل الشرعية لتستقيم حياة المسلمين هذا في داخل ديار الإسلام وليس أمام المسلمين وأولي الأمر فيهم إلا أمرين لا ثالث لهما.
- الأمر الأول: جدالهم ومناظرتهم بالتي هي أحسن وبكل الوسائل العصرية المشروعة في دنيا الناس بلا كلل أو ملل وهذا مستطاع في كل عصر ومصر.
-الأمر الثاني: أن لم ينفع الأقناع ينبغي قتالهم ومحاربتهم أن بغوا في الأرض وانتهكوا مقدساتنا وانحرفوا عنه وأهانوا رموزنا واستباحوا أعرضنا ودمائنا وقاتلونا بدلاً من أعداء الله تعالي وما أشبه ذلك وكأمة مجتمعة وليس منفردة ولا نترك هذا للكفار الذين لا يريدون أن تقوم لهذه الامة قائمة فهذا واجبنا نحن كما قال تعالي{ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلي أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }(28 )
وحبذا لو تم عمل قوة دفاع مشتركة لرد هؤلاء عن كل قطر من أقطار الأمة وعدم السماح لهم بهذا الغلو الجهادي الذي يضر أكثر المسلمين في ارجاء المعمورة.
ولاريب أن التفريط والتحجج بالعجز أو الكسل أو الجهل أو غير ذلك من المعاذير يؤدي لضياع الدين والهوية وضعف المسلمين وتشتتهم وهذا الوهن ظاهر اليوم لكل ذي عين ونصوص الوحيين تحذرنا من هذا التفريط والكثير من مدعي الإيمان في يومنا هذا قصروا في فريضة الجهاد بكل الوسائل إلا من رحم ربي أن لم يكن أضاعوها بالكلية والله يقول في آيات بينات:{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }( 29)
------------------
(1 ) - النساء:29
(2 ) -أخرجه مسلم (برقم/109)- باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه -تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي- نشر/ دار إحياء التراث العربي – بيروت- الطبعة الأولي سنة/ 1374هـ 1955م.
(3 ) - انظر شرح رياض الصالحين(1/222-223)- لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين- نشر دار الوطن للنشر، الرياض -الطبعة: 1426 هـ
(4 ) - البقرة:216
(5 ) - التوبة:111
( 6) - أخرجه البخاري (برقم/ 1519)-باب فضل الحج المبرور-تحقيق/ محمد زهير بن ناصر الناصر-نشر دار طوق النجاة /بيروت-لبنان-الطبعة: الأولى، 1422هـ
(7 ) - أخرجه مسلم -(برقم/ 1876)- باب فضل الجهاد والخروج في سبيل الله -تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي- نشر/ دار إحياء التراث العربي – بيروت- الطبعة الأولي سنة/ 1374هـ 1955م.
( 8) - البقرة:190-192
(9 ) - سورة النساء : 75
( 10) - الأنفال:61
( 11) -انظر " الفتاوى الكبرى لابن تيمية"-كتاب الجهاد (5/538)- نشر: دار الكتب العلمية- بيروت-الطبعة: الأولى، 1408هـ - 1987م
(12 ) - انظر "مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين"(25/229)- جمع وترتيب : فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان-نشر: دار الوطن - دار الثريا- الطبعة : الأخيرة - 1413
( 13) - البقرة: 286
(14) - التغابن 16
( 15) - الحج: 78
( 16) - أخرجه البخاري (برقم/ 7288)- باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم -تحقيق/ محمد زهير بن ناصر الناصر-نشر دار طوق النجاة -بيروت-لبنان-الطبعة: الأولى، 1422هـ
( 17) - الحج: 39
( 18) -انظر الشرح الممتع على زاد المستقنع لابن العثيمين-نشر دار ابن الجوزي
( 19) --انظر كتاب" العبودية" لشيخ الإسلام ابن تيمية -تحقيق :ناصر عبد الكريم العقل(ص/96)-نشر المكتب الإسلامي – بيروت-تحقيق محمد زهير الشاويش- الطبعة السابعة المجددة 1426هـ - 2005م.
( 20) -أخرجه مسلم (برقم/ 1841)-ب باب في الإمام إذا أمر بتقوى الله وعدل كان له أجر -تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي- نشر/ دار إحياء التراث العربي – بيروت- الطبعة الأولي سنة/ 1374هـ 1955م.
(21) - سورة النساء : ا 59
(22 ) - سورة النور : 62
(23 ) - أخرجه البخاري (برقم/ 7142 )ولفظه "بالكامل «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة» "- باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية -تحقيق/ محمد زهير بن ناصر الناصر-نشر دار طوق النجاة /بيروت-لبنان-الطبعة: الأولى، 1422هـ
( 24) - التوبة:38-39
(25 ) - جزء من حديث أخرجه البخاري (برقم/ 1834)- باب: لا يحل القتال بمكة -تحقيق/ محمد زهير بن ناصر الناصر-نشر دار طوق النجاة /بيروت-لبنان-الطبعة: الأولى، 1422هـ
(26 ) - الشرح الممتع على زاد المستقنع لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين(8/9)-نشر دار ابن الجوزي- الطبعة : الأولى سنة 1422 - 1428 هـ
(27) - الكهف:103-105
(28 ) - الحجرات:9
(29 ) - الحجرات:15