وسطية الإسلام في التدرج بالتشريعإنَّ الحمدَ لله نحمدُه،ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه اللهُ فهو المهتدي، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلاالله، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه.
أمَّا بعد:
فالتدرُّج في التشريع من وسطية الإسلام وسماحته؛ فقد تدرَّجت بعضُ الأحكام بحسب الأحوال والوقائع، ولم تنـزل جملةً واحدةً، ولكن أوجبها عليهم مرةً بعد مرةٍ، فقد فرض سبحانه الصلاةَ على العباد قبلَ الهجرة بسنةٍ ونصفٍ تقريبًا، ثم فرض الزكاة والصوم في السنة الثانية، وهكذا في باقي الأحكام؛ وذلك مراعاةً لواقع المجتمع الذي أراد معالجته وإخراجَه من ظُلُمات الكُفر إلى نور الإيمان.
ونُنبِّه لأمرٍ جوهريٍّ، وأشعرُ بالشكِّ في قلوب بعض ضعاف الإيمان في مسألة التدرُّج هذه؛ لأن البعض يفهمُها خارج سياقِها بتأويلٍ فاسدٍ بعقله المريض القاصر، ونقولها واضحةً لا لبسَ فيها ولا غموض: ليس المقصودُ بكلمة التدرُّج في الشريعة السَّمْحاء التسويفَ وتأجيلَ التنفيذ في إقامة أحكام الله، وتطبيق شرعه، حاشا لله! بل يُعنى بها أن الله تعالى - برحمته وفضله - يُيسِّر أحكامه على الأمَّة المحمدية الذي ختم برسولها صلى الله عليه وسلم وبالقرآن الرسالةَ والنبوةَ؛ لأنه الدينُ المختار من ربِّ العالمين للبشرية جمعاء، والمهيمن على ما سواه منذ خلق آدم حتى قيام الساعة كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، فهو آخر الأديان وليس أولها؛ وذلك لأنه دينٌ متينٌ؛ لما فيه من تعاليم وانضباط يخالف الهوى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الدين متينٌ؛ فأَوغِلوا فيه برفق))[1].
فلا عجبَ أن يُيسِّر الله تعالى على النفس البشرية ما اعتادت عليه من معاصٍ ومُحرَّمات بالتدرُّج الحكيم في بيان أحكامه وأوامره، حتى وصلت الرسالة والنبوَّة لطورها الأخير بعد أن تهيَّأت القلوب، ورسخ الإيمان فيها، وصارت النفوسُ المؤمنةُ قادرةً على التطبيق والتنفيذ، فكانت الرسالة الخاتمة الكاملة المناسبة لفطرة الإنسان بوسطيَّتها واعتدالها وسماحتها المنـزَّلة على خاتم الرسل وإمامِهم نبيِّ الرحمة صلى الله عليه وسلم.
ونذكر هنا أمثلةً من القرآن والسنة في مسألة التحريم والإباحة والتدرُّج فيهما، والله المستعان:
• من التدرُّج في الإباحة، ثم التحريم بعد ذلك، ونسخ الحكم: صيام رمضان، وكما هو معلوم أن الصيام لم يُفرض بمكةَ؛ وإنما فُرض بالمدينة المنورة بعد الهجرة، ولا يخفى أن الصيام مرَّ بثلاث مراحل مُتدرِّجة، ذكرها ابنُ كثيرٍ رحمه الله تعالى في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]، فقال رحمه الله: وأما أحوال الصيام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدِم المدينةَ، فجعل يصوم من كلِّ شهرٍ ثلاثةَ أيامٍ، وصام عاشوراء، ثم إن الله تعالى فرض عليه الصيام، وأنـزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183] إلى قوله تعالى: ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ﴾ [البقرة: 184]، فكان مَن شاء صام، ومَن شاء أطعم مسكينًا، فأجْزأ ذلك عنه، ثم إن الله تعالى أنـزل الآية الأخرى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾ [البقرة: 185] إلى قوله: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185]، فأثبت الله صيامَه على المقيم الصحيح، ورخَّص فيه للمريض والمسافر، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام؛ ا هـ [2].
ويتبيَّن لنا مما سبق أن الصيام كان على ثلاث مراحل متتالية ونُسِخ:
الأول: صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
الثاني: التخيير بين الصيام والكفارة.
الثالث: تحريم الفطر في رمضان إلا لعُذر شرعي؛ كسفر أو مرض.
• ومن التدرُّج في النهي ابتداءً، ثم تحريمه ومنعه بعد ذلك: شرب الخمر، والخمر هي أمُّ الخبائث، وهي تصدُّ عن الصلاة وذكر الله؛ لذلك نهى الله تعالى عباده أن يَقربوها عند الصلاة فقط؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ﴾ [النساء: 43]، ثم حرَّمها بعد ذلك.
قال السعدي رحمه الله: ينهى تعالى عبادَه المؤمنين أن يقرَبوا الصلاة وهم سكارى؛ حتى يعلموا ما يقولون، وهذا شاملٌ لقربان مواضع الصلاة كالمسجد؛ فإنه لا يُمكَّن السكران من دخوله، وشاملٌ لنفس الصلاة؛ فإنه لا يجوز للسكران صلاةٌ ولا عبادةٌ؛ لاختلاط عقله، وعدم علمه بما يقول؛ ولهذا حدَّد تعالى ذلك وغَيَّاهُ إلى وجود العلم بما يقول السكران، وهذه الآية الكريمة منسوخةٌ بتحريم الخمر مطلقًا، فإن الخمر - في أول الأمر - كان غيرَ مُحرَّم، ثم إن الله تعالى عرَّض لعباده بتحريمه بقوله: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ﴾ [البقرة: 219].
ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلاة، كما في هذه الآية، ثم إنه تعالى حرَّمه على الإطلاق في جميع الأوقات في قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ ﴾ [المائدة: 90]؛ ا هـ[3].
قلتُ: وفي تقرير لمنظمة الصحة العالمية جاء فيه ما يُسبِّبه الخمر من كوارثَ ومصائب وبلايا تُصيب المجتمع الذي يُبيح شرب أمِّ الخبائث، جاء فيه ما مختصره:
• يتسبَّب تعاطي الكحول في وقوع 3.3 مليون حالة وفاة كلَّ عامٍ، هذا يُمثِّل 5.9% من جميع الوفَيَات.
• يُمثِّل تعاطي الكحول عاملًا مُسبِّبًا لأكثر من 200 حالة وفاة وإصابة.
• بشكل عام يُعزى 5.1 % من العبء العالمي للمرض والإصابة للكحول، وفقًا لقياس سنوات العمر المصحَّحة باحتساب مُدَد العجز.
• يتسبَّب تعاطي الكحول في الوفَيَات والعجز في مرحلة مُبكرة نسبيًّا من العمر، ويُعزى نحو 25 % تقريبًا من إجمالي الوفَيَات في الفئة العمرية التي تتراوح سِنُّها بين 20 و 39 عامًا إلى الكحول.
• هنالك علاقة سببية بين تعاطي الكحول، وطيف من الاضطرابات النفسية والسلوكية، وغيرها من الأمراض غير السارية، فضلًا عن الإصابات.
• تم توطيد آخر علاقة سببية بين تعاطي الكحول وحالات الإصابة بالأمراض المعدية من قبيل السُّلِّ، وكذلك مسار مرض الإيدز والعدوى بفيروسه.
• بعيدًا عن العواقب الصحية، فإن تعاطي الكحول يُسفر عن خسائر اجتماعية واقتصادية كبيرة للأفراد والمجتمع ككل؛ ا هـ[4].
قلتُ: فلا عجب أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريمها على أمَّته إلى أن تقوم القيامة؛ لأنها تَذهب بالعقل والوعي، وتنحرف بالمرء عن الطريق القويم والصراط المستقيم؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لعن الخمر وعاصِرها ومُعتصرها، وشاربها وساقيَها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها ومشتريَها وآكل ثمنها))[5].
• ومن التدرُّج ثم الإباحة كمثال أخيرٍ: ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في النهي عن زيارة القبور، فقد حرَّم زيارتها ابتداءً؛ لأن الصحابة كانوا حديثي عهد بالجاهلية والشِّرك، ثم أباحها كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((نهيتُكم عن زيارة القبور فزُوروها))[6]، بعد أن رسخ الإيمان في القلب؛ لأنها تُذكِّرهم بالآخرة، وغير ذلك كثير.
قلتُ: وإذا تمكَّن الشيطان من قلب العبد، فلا ريب أنه سيُضلُّه عن عبادة الله لعبادة القبور وتعظيمها، وهو من الشرك الأكبر، ويؤيِّد هذا القولَ شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، قال ما مختصره: وقد بلغ الشيطان بهذه البدع إلى الشرك العظيم في كثير من الناس، حتى إن منهم من يعتقد أن زيارة المَشاهد التي على القبور - إما قبر لنبي، أو شيخ، أو بعض أهل البيت - أفضلُ من حج البيت الحرام، ويُسمِّي زيارتها: الحج الأكبر، ومن هؤلاء من يرى أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ من حج البيت، وبعضهم إذا وصل المدينة رجع، وظن أنه حصل له المقصود؛ وهذا لأنهم ظنوا أن زيارة القبور لأجل الدعاء عندها والتوسُّل بها، وسؤال الميت ودعائه.
ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضلُ من الكعبة، ولو علموا أن المقصود إنما هو عبادة الله وحده لا شريك له، وسؤاله ودعاؤه، والمقصود بزيارة القبور الدعاء لها، كما يُقصد بالصلاة على الميت؛ لزال هذا عن قلوبهم؛ ولهذا كثيرٌ من هؤلاء يسأل الميت والغائبَ كما يسأل ربَّه، فيقول: اغفر لي، وارحمني، وتب عليَّ، ونحو ذلك؛ ا هـ[7].
وهناك أمثلةٌ أخرى، ولكن نكتفي بما ذكرنا للتدليل على سماحة ورحمة الإسلام، وعظمة شريعته في التدرُّج في أحكامه، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الآمين، وآله وصحبه أجمعين، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
-------------
[1] انظر: صحيح الجامع الصغير وزياداته "الفتح الكبير" (برقم/2246)؛ لمحمد ناصر الدين الألباني؛ نشر المكتب الإسلامي؛ دمشق؛ الطبعة الثالثة، سنة 1408هـ-1988م.
[2] تفسير القرآن العظيم؛ للحافظ أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (1 /498)؛ تحقيق سامي بن محمد سلامة؛ دار طيبة للنشر والتوزيع؛ الطبعة الثانية (1420هـ -1999م).
[3] انظر: "تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان"؛ لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (ص:179)؛ الناشر: مؤسسة الرسالة؛ تحقيق: عبدالرحمن بن معلا اللويحق؛ الطبعة: الأولى 1420هـ -2000م.
[4] انظر: تقرير منظمة الصحة العالمية في صحيفة وقائعها برقم 349؛ كانون الثاني: يناير 2015؛ على موقعها على الشابكة.
[5] انظر: صحيح الجامع الصغير وزياداته "الفتح الكبير" (برقم/2683)؛ لمحمد ناصر الدين الألباني؛ نشر المكتب الإسلامي؛ دمشق؛ الطبعة الثالثة سنة 1408هـ-1988م.
[6] انظر: صحيح مسلم (برقم/106)؛ باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربَّه عز وجل في زيارة قبر أمه.
[7] انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (2/268)؛ لشيخ الإسلام ابن تيمية؛ تحقيق: ناصر عبدالكريم العقل؛ الطبعة السابعة؛ نشر دار عالم الكتب، سنة 1419هـ -1999م.
رابط الموضوع بموقع الألوكة:
http://www.alukah.net/sharia/0/122758/#ixzz4yhuEXXci