الإسلام وحرية الاعتقاد
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا, من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له, و أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
من سماحة الإسلام ووسطيته حرية المعتقد بالضوابط الشرعية المعتبرة وفي القرآن آية صريحة بعدم الاكراه في الدين وهي قوله تعالي:{ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ }(1)
-يقول السعدي- رحمه الله –في تفسيرها ما مختصره: يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه، غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا، ولا تدل الآية الكريمة على ترك قتال الكفار المحاربين، وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق، وأما القتال وعدمه فلم تتعرض له، وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخري.اهـ (2 )
قلت: فالإسلام كما هو واضح جلي بنص القرآن يبيح لغير المسلمين حرية ممارسة عقيدتهم، وإقامة شعائرِهم في أماكن عبادتهم، وعدم إكراههم على دخولِ الإسلام، مع الالتزامِ بأحكامه، فإذا أبى التزامَ أحكامِ الإسلام انتقض عهده.
وجاء في كتاب "عقوبة الارتداد" لعبد العظيم المطعني –رحمه الله- ما مختصره:" وعلى هذا الأساس يجب ان نفهم كفالة حرية الاعتقاد في الإسلام و حتى لا يسئ الجاهلون استعمالها فيسووا بين أبو جهل وأبو بكر.
وعلى هذه الأسس فرق الفقهاء رضى الله عنهم بين الكفر الأصلي غير المسبوق بالإسلام، والكفر الطارئ المسبوق بالإسلام ( الردة ) فمع ان الكفرين سواء في المصير الأخروي و وهما ذنبان لا يغفران ابدا فان الكفر الأصلي غير المسبوق بالإسلام لا يهدر دم صاحبه،بل دمه مصون شرعا. ومجرد كفره لا يوجب عله عقوبة عاجلة. بل يتمتع بكل حرياته الدينية والاجتماعية تماماً كم يتمتع به المسلم.اهـ(3 )
قلت: وبناء علي ذلك فإن حريةُ العقيدة للكتابيِّ من اليهود والنصارى ومَن جري مجراهم تختلفُ عن حرية المسلم؛ فليس للمسلم الموحِّد أن ينكر ألوهية الله، ويكفرَ به، وينكر وجوده، ويقال: هذا حقه، وله الحريةُ في الإيمان والكفر؛ فهذا لا حريةَ له، بل يطبَّق عليه حدُّ الرِّدة؛ لأن الإسلام يعني الاستسلام والانقياد لحُكم الشرع؛ فعقوبة المسلم المرتدِّ: القتلُ؛ لقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"مَن بدَّل دِينَه فاقتُلوه" ( 4)
وقتُله ذاك عقاب له إن لم يرجع لدِينه ويتُبْ إلي الله؛ ليستقيم أمرُ المجتمع كله، وحتى لا يكون اعتناقُ الإسلام ثم الكفر به طعنًا فيه؛ كما قال تعالي: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْـزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }(5)
-قال ابن كثير رحمه الله-ما مختصره: هذه مَكيدةٌ أرادوها ليَلبِسُوا على الضعفاء مِن الناس أمْرَ دِينهم، وهو أنهم اشْتَوروا بينهم أن يُظهِروا الإيمان أول النهار، ويُصلُّوا مع المسلمين صلاةَ الصبح، فإذا جاء آخرُ النهار ارتدُّوا إلي دِينهم؛ ليقول الجَهلةُ من الناس: إنما رَدَّهم إلي دِينهم اطِّلاعهُم على نقيصةٍ وعيبٍ في دِين المسلمين؛ ولهذا قالوا: { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }. اهـ (6 )
قلت: فقتلُ المسلِمِ المرتدِّ عن دِينه، ليس عقوبة على حرية الفكر والاعتقاد كما يروج أهل الفتن للنيل من الإسلام وتصويره بأنه دين دموي، بل هو عقوبةٌ على استهزائه بالدين، ومحاولة الطعن فيه بدخوله وخروجه منه، وما في ذلك مِن خطرٍ على الأمة؛ فتماسُكُ المجتمع وتعظيم الدِّين أمرٌ لا يجوزُ فيه رحمة أو تقصير، فلزِم أن تكون العقوبةُ الصارمة على قدرِ الذَّنب الفادح.
ولقد أفاض د.عبد العظيم أبراهيم المطعني في كتابه سالف الذكر هنا في كشفه لشبهات هؤلاء فقال ما مختصره وبتصرف: المعركة المحتدمة الآن ركز فيها الكارهون لما أنـزل الله جهودهم ضد عقوبة المرتد العاجلة. وفي الواقع أن هذه الفئة المضللة لا تنكر حد الردة وحده، بل هم -مثلاً -يلغطون -الآن -حول حد الردة ويدعون أنه غير موجود، ولا أساس له من الدين أو الشريعة. اي ينكرون وجوده من الأساس. ويبنون هذا الإنكار على شبهات تافهة ثم أضاف-رحمه الله-:
وهذا الموقف الذي يقفونه من حد الردة، لأنه في زعمهم لا وجود له في الدين أو الشريعة، وهي حيلة زينها لهم الشيطان، يقفونه أمام كل الحدود الإسلامية حتى التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، اللهم الاَّحد البغي فإنهم يتحمسون له لحاجة في نفس يعقوب ثم أضاف- رحمه الله-: ولهم في ذلك حيل عجيبة قال ببعضها فالحدود كلها عندهم "موديل قديم" انتهى عصره، أو عملة ترجع إلي عهد وكراهية الحدود الإسلامية هي السبب في كراهية تطبيق الشريعة فكلما نودي بتطبيق الشريعة تصدوا للنداء وخوَّفوا من الرجوع إلي الوراء: إلي عصور الظلام والجهل والرجعية، والجمود والتخلف؛ لإن الإسلام عند هؤلاء، كما قال أحدهم عام 1991م كان يناسب عقلية القرن الأول من الهجرة، أما في القرن الخامس عشر فلم يعد الإسلام قادراً على قيادة العقل المعاصر في القرن العشرين؛ لإنه عقل زكي ومثقف ووليد حضارات إنسانية زاهرة.اهـ (7 )
قلت: ومما سبق بيانه ندرك أن حرية الاعتقاد إنمّا هي لأهل الكتاب، ومَن جري مجراهم في دار الإسلام، وينبغي أن تكون في إطار الشريعة الخاتمة، كما بيَّنَّا، وليست منفصلة عنها؛ أي: ليس من حقِّ الكافر في دار من ديار الإسلام أن يجاهرَ بكفره علانية ويقول: أنا حر! ثم يمارس كفره وفجوره في المجتمع المسلم، سواء بالقول أو الفعل أو الكتابة والنشر، أو ما أشبه ذلك من الوسائل، دون عقاب على ما يدعو إليه من كفر وزندقة؛ فهذا ليس من حرية الاعتقاد في الإسلام، الذي يدعو إلي التوحيد، بل المقصود أنه لا يُكرَه على الإيمان إلا برغبته، فإن أبى فهو وشأنه، لا يُكره على دخول الإسلام إلا أن يقتنع به، وله أن يمارسَ شعائره الكفرية في حدود ما تبيحه الشريعة أمنًا على نفسه وماله وأهله وأماكن تعبُّده، ما دام لا يخرُجُ عن الحدود الشرعية التي تطبَّق على الجميع؛ لأن مبدأ الثواب والعقاب لا يفرِّق بين مسلم وكتابي، وكل منهما معاقَب حسب ما شرعه الله -تعالي-، وبيَّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، إن خرَج عن إطار الشرع؛ فالحرية ليست مطلَقة، حتى لا يُفسِد كلُّ كافر عقيدةَ ضِعاف الإيمان في الأمة ممن يؤمِن بلسانِه ويكفُرُ بقلبه.
فالمقصود بحرية العقيدة للكتابي وما يجري مجراه يبيِّنه قوله تعالي:{لَا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(8 ).
وهناك نصوص أخرى كثيرة تدل على حرية المعتقد للكتابي وغيره من غير المسلمين دون إكراهٍ، من ذلك:
• قوله تعالي:{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}( 9).
• وقوله تعالي:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ في الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(10 ).
بل جعَل الله تعالي-المَدخَل لدعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وبالجدال الحسَن الذي يرُدُّ الحُجَّة بالحجة، ويبيِّن الحق من الباطل والإيمان من الكفر، وليس الجدال لمجرد الجدال، وإثبات الرأي لهوى ضالٍّ، أو نصر زائف وخادع.
فقال تعالي :{ ادْعُ إلي سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }(11 ).
وإن لَم يرتقِ الجدال لبيان الحق -وهو واضحٌ جليٌّ -فليس للمسلمين في الشريعة أن يُكرِهوهم على الإيمانِ، بل الواجب عليهم دعوتُهم فقط، فالإكراه في الدين غلو في الشريعة لم يأمر الله به وتركهم للمجاهرة بكفرهم في ديار الإسلام إفراط وتساهل لم يأمر الله به ولين في موضع الشدة غير مقبول شرعاً.
-قال تعالي:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلي كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }(12 ).
قال ابن كثير رحمه الله-في تفسيرها ما مختصره: هذا الخطاب يعُمُّ أهلَ الكتاب من اليهود والنصارى، ومَن جري مجراهم: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلي كَلِمَةٍ }: والكلمةُ تُطلَق على الجملة المفيدة؛ كما قال ها هنا، ثم وصَفها بقوله: { سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ }؛ أي: عَدْلٍ ونَصَف، نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسَّرها بقوله: { أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } لا وَثَنًا، ولا صنَمًا، ولا صليبًا ولا طاغوتًا، ولا نارًا، ولا شيئًا، بل نُفرِدُ العبادةَ لله وحده لا شريك له.اهـ( 13)
قلت: وهذه هي وسطية الإسلام وعظمته وسماحته في بيان حرية الاعتقاد للمسلم وغير المسلم ولو نظرنا للمسلمين اليوم في أوربا وأمريكا وغيرهما من الدول التي تدين بملة غير الإسلام سواء كانوا من أهلها أو مقيمين فيها لسبب من الأسباب تجدهم في خطر واستهداف دائم بسبب الغلو والتعصب ضدهم من الأفراد والجماعات والدولة التي يعيشون علي ارضها تحرمهم السلطات من ممارسة دينهم وشعائرهم وتضيق عليهم بالقوانين كمنع الحجاب والنقاب وما أشبه هذا وتصفهم بالدموية والتطرف كلما حدث دمار وعمل إرهابي من بعض من ينتسبون للإسلام زوراً دون جريرة منهم ظلماً وعلواً فتحرق المصاحف والمساجد الذين يصلون فيها ويهين نبيهم –صلي الله عليه وسلم-من بعض المتعصبين منهم وصار النطق بالشهادتين هي البصمة الجينية للإرهابي عندهم حتي لو كان هؤلاء المسلمين منهم ولدوا وعاشوا وتربوا بينهم في بلادهم ويحملون جنسيتها وهذا هو الفارق بين دين الإسلام بشموليته وسماحته ووسطيته واعتداله وبين شعارات الحرية والكرامة التي ينادون بها ولا تطبق إلا علي أنفسهم وحسبنا الله ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي النبي الآمين وآله وصحبه أجمعين والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
--------------------------
1-البقرة: 256
2-انظر " تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/111 )-
3-عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين (ص:90 )–د.عبد العظيم إبراهيم المطعني-طبع مكتبة وهبة-مصر-الطبعة الاولي سنة 1414هـ-1993م
4-أخرجه البخاري (برقم/ 6922)- باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم
5-آل عمران: 72
6-تفسير القرآن العظيم للحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي( 2 /59
7-عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين (ص:96 )–د.عبد العظيم إبراهيم المطعني
8-- البقرة: 256
9-- الكهف: 29
10-يونس: 99
11-النحل: 125
12-آل عمران: 64
13-انظر "تفسير القرآن العظيم "للحافظ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي( 2 /55 )