الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -.
أمَّا بعدُ:
فعندما شاء الله- جلَّتْ حِكْمتُه، ولا مُعقِّب لحُكمه- أن يكونَ له خليفة في أرْضه يعبده ويوحِّده، ويدعو ذُريَّته إلى ذلك، خَلَقَ آدمَ من تراب ثم قال له "كنْ فيكون"؛ قال- تعالى -: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ [البقرة: 30].
وكما في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ لَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12/ 588):
"فأخبر أنه قال له كن فيكون بعد أن خلقه من تراب، ومثل هذا الخبر في القرآن كثير: يخبر أنه تكلم في وقت معين ونادى في وقت معين".
ثم بيَّن - سبحانه - الغاية من الخَلق، فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
ومن أجْل إفراده - سبحانه - وتعالى بالعبوديَّة والألوهيَّة؛ بَعَث الله أنبياءَه ورُسلَه مُبشرين ومُنذرين، وختَمَهم بالنبي الخاتم - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأوَحى إليهم بكُتبه وكلامه، وفيها نور وهدى لمن أرادَ بلوغَ طريق الرشاد، وغاية المرَام، ولكن طوال تاريخ البشريَّة والعِباد بين مؤمنٍ بوجوده - سبحانه - ومُلْحد يُنكر وجودَه، وبين مُصدِّقٍ برُسله وكُتبه، ومُكَذِّب لا يُؤمن ببعثٍ ولا حساب، ولا جنة أو نار.
ودخَلَ التحريفُ والتبديل في الكتب السماوية السابقة، وعاد كثيرٌ من العِباد إلي الشِّرْك بالله والكفر به، ولكن ظلَّ الإسلام الدِّين الوحيد الذي يدين أهْلُه بتوحيدهم لله، وإفراده بخصائص الألوهيَّة والعبودية، وكتابهم لم يُحَرَّف أو يُبَدَّل؛ لأنَّ الله وعَدَ بحِفظه؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
• قال ابن تيميَّة في "اقتضاء الصراط": "اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - بعثَ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الخَلْق على فترة من الرُّسل، وقد مَقَتَ أهْلَ الأرض - عربَهم وعجَمهم - إلاَّ بقايا من أهْل الكتاب، ماتوا - أو أكثرهم - قُبيل مِبعثه، والناس إذ ذاك أحد رجلين؛ إمَّا كِتابي مُعتصم بكتاب، وإمَّا مُبدِّل، وإمَّا مُبدل مَنسوخ، ودين دارس، بعضه مَجهول، وبعضه متروك، وإمَّا أُمِّي من عربي وعجمي مُقبل على عبادة ما استحسنه، وظنَّ أنَّه ينفعه مِن نَجم أو وَثَن، أو قَبْر أو تمثال، أو غير ذلك.
والناس في جاهليَّة جَهْلاء؛ من مقالات يظنونها عِلْمًا وهي جهل، وأعمال يحسبونها صلاحًا وهي فساد، وغاية البارع منهم عِلْمًا وعملاً، أنْ يحصلَ قليلاً من العِلم الموروث عن الأنبياء المتقدِّمين، قد اشتبه عليهم حقُّه بباطله"؛ اهـ.
ومن ثَمَّ فالتوحيد دُرَّة تاج الإسلام، والدين الذي ارتضاه الله لعباده، والمهيمن على الدِّين كلِّه؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].
ولنا عودة إلى التوحيد في نهاية مَقَالتي، بعد أن نبيِّن حقيقة التوحيد عند أهْل الكتاب؛ لندركَ عَظَمة التوحيد عند الأُمَّة المحمديَّة، وأنَّه دُرَّة تاج الإسلام.
التوحيد عند اليهود:
اليهود أُمَّة قلوبُهم أشدُّ قسوة من الحجارة، فهم قومٌ لا عَهْد لهم، قتلوا أنبياءَهم، وكفَروا بالله ورُسله، وعاثوا في الأرض فسادًا، وصوَّروا الله - تعالى - في صور مُجسمة تُشبه البشر، ووصفوه بكثير من صفات النقْص والضَّعف، والكذب والغَفلة والجهْل، وهذا واضحٌ في كثيرٍ من قَصص أسفارهم.
كما أنَّهم حرَّفوا التوراة، واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلاً، وقالوا: هو من عند الله، فخسروا دينَهم ودنياهم؛ قال - تعالى -: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة: 79].
• وبنو إسرائيل تاريخُهم في الشِّرْك والكفر طويل، ولم يستطعْ نبيُّ الله موسى - عليه السلام - أن يمنعَ قومَه من عبادة العِجل الذي صنعه لهم "السامري"، فعبدوه بعد أن تأخَّر موسى في العودة إليهم، حينما ذهَبَ لمناجاة الله، والقرآن الكريم بيَّنَ ذلك؛ فقال - تعالى -: ﴿ فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي * قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَافَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ ﴾ [طه: 86 - 88].
من أجْل ذلك ضرَبَ الله على قلوبهم الذِّلَّة والمسْكَنَة، واستحقوا غضبَ الله ولعْنَته عليهم في الدنيا والآخرة.
التوحيد عند النصارى:
لا يقل حال التوحيد عند النصارى عن حال اليهود من الشِّرْك والكفر والضلال المبين؛ فقد غالوا في دينهم، وقالوا في المسيح وأُمِّه قولاً عظيمًا، وتناول الأتباع بعد عيسى - عليه السلام - الإنجيلَ بالتحريف والزيادة؛ حتى أصبح أربعة أناجيل تُناقِض بعضها بعضًا.
وصارت الكنيسة هي المهيمنة المتسلِّطة، فقالوا: إنَّ المسيح الإله انقلبَ فأصبح إنسانًا، وعاش مع الناس كواحدٍ منهم، وقُتِل بيد اليهود أحفاد القِردة والخنازير ودُفِن، ثم خَرَج من قَبره وصعَدَ إلى السماء، وقد احتمَلَ هذه الآلام؛ لينقذَ البشريَّة من الخطيئة التي ارتكبها أبوه آدم؛ لأنَّ المسيح - حسب اعتقادهم - له شخصيَّتان: اللاهوت، والناسوت؛ أي: إلهيَّة وإنسانيَّة، وكلُّ هذا غُلو يتبرَّأ منه نبيُّ الله عيسى يوم القيامة.
قال - تعالى -: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ﴾ [النساء: 171].
قال ابنُ كثير في تفسيره: "أي لا تجاوزوا الحدَّ في اتِّباع الحقِّ، ولا تُطْروا مَن أُمِرتُم بتعظيمه، فتبالغوا فيه؛ حتى تُخرِجوه عن حَيِّز النبوَّة إلى مقام الألوهيَّة؛ كما صنعتْم في المسيح وهو نبيٌّ من الأنبياء، فجعلتموه إلَهًا من دون الله، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم، شيوخ الضلال الذين هم سلفُكم ممن ضلَّ قديمًا"؛ اهـ.
وقال الشاطبي في "الاعتصام"، (1/ 103): "فزعموا في الإله الحق ما زعموا من الباطل، بناءً على دليل عندهم مُتشابه في نفس الأمر حسبما ذَكَره أهْلُ السِّيَر، فتاهوا بالشبهة عن الحقِّ؛ لترْكهم الواضحات، ومَيلهم إلى المتشابهات؛ كما أخبر الله - تعالى - في آية آل عمران، فلذلك قال - تعالى -: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 77]، وهم النصارى"؛ اهـ.
والحاصلُ أنَّ التوحيد عند أهْل الكتاب من اليهود والنصارى فيه غُلو وباطل، فاستحقَّ اليهود الغضبَ واللعْنَ من الله - تعالى - وضلَّ النصارى عن التوحيد الحقِّ.
• قال شيخ الإسلام ابن تيميَّة في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم"، (1/ 67): "كفر اليهود أصلُه عدمُ العمل بالعِلم، وكُفر النصارى أصلُه عملُهم بلا عِلم.
وجماع ذلك: أنَّ كفر اليهود أصلُه من جِهة عدم العمل بعِلمهم، فهم يعلمون الحقَّ ولا يتبعونه عملاً، أو لا قولاً ولا عملاً، وكُفر النصارى من جِهة عملهم بلا عِلم، فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله، ويقولون على الله ما لا يعلمون؛ ولهذا كان السلف - كسفيان بن عُيينة وغيره - يقولون: إنَّ مَن فَسَد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومَن فَسَد من عُبَّادنا ففيه شبه من النصارى"؛ اهـ.
التوحيد درة تاج الإسلام:
وبعد أنَّ بيَّنَّا حال التوحيد عند اليهود والنصارى، يتبيَّن لنا جَلِيًّا أن الإسلام هو الدِّين الوحيد من الأديان السماوية الذي ظلَّ مُحافظًا على خُلو التوحيد من شوائب الشِّرْك والكفر، وإن ضلَّ بعضُ القوم من الفِرَق والمذاهب الضالَّة؛ قديمًا وحديثًا، إلاَّ أنَّ الله سوف يؤيِّد مَن ينصر هذا الدين، ويدافع عن التوحيد مِن بِدَع الشِّرْك والكفر، وله الحمد والمنَّة.
• وقد أخْرَجَ مسلم في كتاب الإمارة عن ثوبان، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تزال طائفة من أُمَّتي ظاهرين على الحقِّ، لا يضرُّهم مَن خَذَلَهم، حتى يأتي أمرُ الله وهم كذلك)).
ولا ريبَ أنَّ هذه الطائفة المنصورة هم أهْلُ السُّنة والجماعة، التي تقوم عقيدتُهم على إخلاص العبوديَّة والتوحيد لله - تعالى - في أسمائه وصفاته مِن غيْر تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومِن غير تشبيهٍ أو تعطيل.
ويؤمنون بأنه - سبحانه - واحدٌ أحدٌ لا شريك له، وليس كمثله شيءٌ، ويؤمنون بكلِّ أنبياء الله ورُسله، لا يُفرِّقون بين أحدٍ منهم، ويؤمنون بكلِّ ما أُنْزِل عليهم من كُتب مِن عند الله قبل التحريف والتبديل، ويَدعون غيرَهم من أهْل الْمِلل والنِّحَل إلى الله وتوحيده، وإخلاص العبودية له، لا يبتغون بذلك أجرًا غير رضاه - سبحانه - وهو القائل في كتابه الكريم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].
والله من وراء القَصْد، والحمد لله ربِّ العالمين.
وكتبه/ سيد مبارك