زكاة الفطر بين النص الشرعي وأقوال الرجالالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي النبي الأمين ويعد..
هذه مقالة قديمة نعيد نشرها فقد بدأت الحرب والجدال مبكراً كالعادة بين المدافعين عن أخراج زكاة الفطر مالاً لما فيها من مصلحة الفقير وبين التمسك بالأدلة بأخراجها طعاماً والمعلوم أننا نقدم الدليل علي أقوال الرجال، ولا يعني هذا أننا نرفض الاجتهاد بالطبع لا ولكن أنا أتكلم عن الدليل الصحيح الصريح الذي لا يحتمل التأويل لقول أخر أما الأدلة التي تحتمل التأويل والاختلاف فهذا أمر مرغوب ومحبوب لأنه وسيلة لاظهار الحق وكل أجتهادات علمائنا الأفاضل في هذا الصدد علي العين والرأس وقد أختلف الصحابة في فهم الدليل كما حدث في صلاة العصر في بني قريظة والرسول بينهم فلم ينكر عليهم فالأفهام تتباين، لكن عندما يوجد الدليل الصريح الصحيح المتفق علي صحته و الذي لايحتمل التأويل فلا يوجد عاقل يقدم اقوال الرجال علي قول الله رب الناس وقول رسول رب العالمين فهذا لايقوله عاقل ابداً
ومانحن إلا طلاب علم ولسنا علماء بل مقلدين نلتمس الحق ونحترم كل علمائنا فمن أصاب منهم في اجتهاده فله أجران ومن أخطأ فله أجر اجتهاده وكل هذا لاغبار عليه.
لكن عندما يوجد الدليل الصريح الصحيح المتفق علي صحته حتي بين المجتهدين ثم يتم تأويله للحاجة والمصلحة واختلاف العصر إلي أخره.
فهذا لاريب في عدم القول به أو الدعوة إليه وكل إنسان علي نفسه بصيرة ،ولا يقلل من احترامنا للمخالف ولكن الحق أحق أن يتبع
وأنا بطبيعتي لا أحب الجدال فيما هو ظاهر صحته وواضح وضوح الشمس في كبد السماء ، فعندما يقال أين أصحاب الدليل ..فين اصحاب الدليل إلي أخره ممن يدافعون عن أقوال الرجال من الأخوة الأفاضل اصحاب العلم فهو غير مقبول وكل إنسان يأخذ منه ويرد ،وكأنما هي تهمة أن يقال قول الله وقول رسوله أولي من قول الرجال فهذا لاريب ترف فكري لا حاجة لنا للخوض فيه ولا مع أصحابه والمدافعين عنه.
ولو كان المدافعين عن اخراج زكاة الفطر مالا لأقوال قالها بعض علمائنا الأفاضل من السلف وكان اجتهادا منهم لضرورة فرضتها الظروف في عصرهم ، قطعاً لا يطبق في كل عصر ويبقي الأصل وهو السنة الثابتة الصريحة الصحيحة بإخراجها طعاماً ، ولم يقل عالماً من السلف أوالخلف علي الإطلاق ممن أجاز اجتهادا إخراجها مالاً لمصلحة الفقير أنه لا يصح اخراجها طعاما!!!
ولن يقول عالماً يفقه دينه هذا ابداً.
لأن السنة ثابتة صريحة بأن النبي وأصحابه أخرجوها طعاما ولا يتسع المقام لذكرها هنا وهي معلومة للقاصي والداني وخصوصا من يقولون أين أهل الدليل.
وحتي من يقول في عصرنا ومازال ويدافع عن أخراجها مالاً لمصلحة الفقير وهي أفضل وأكرم له و...و..إلي أخره
نقول له لو كنت فقيهاً حقاً لرأيت أن ظروفنا هذه الأيام العجاف ونحن محبوسين في بيوتنا بسبب كورونا، وقطعا لايوجد فسح ولا ملابس عيد ولا ..إلي أخره
لأنه ببساطة يافقيه لن تنفع الفقير الملابس الجديدة ولا الاختلاط ولا الزيارات حتي تنكشف الغمة وهو في بيته ،والأفضل للضرورة والظروف والحظر هو الطعام فهل يختلف العقلاء والفقهاء في صحة ذلك الرأي؟
فأن كان المخالفين يهتمون حقا بأحوال أهل الزكاة الفقراء لقالوا نتفق معكم للضرورة هذه السنة وكف الله المؤمنين شر الجدال والاختلاف ، هذا لو كانوا يعقلون.
وعلي كل حال اعيد نشر المقالة وما علي الرسول إلا البلاغ
زكاة الفطر بين النص الشرعي وأقوال الرجال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:
فالمسألة التي يسأل عنها كل عام الجميع عن زكاة الفطر، تدور على الاختلاف الحاصل حول زكاة الفطر: هل يجوز إخراجها مالًا أم لا؟ أخرج البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ»؛ بَابُ فَرْضِ صَدَقَةِ الفِطْرِ، رقم 1503.
وأخرج مسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: "كنا نخرج زكاة الفطر من ثلاثة أصناف: الأقط، والتمر، والشعير"، رقم (985).
• وأخرج أبو داود عن ابن عباس قال: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة الصيام من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وانظر صحيح المشكاة للألباني، رقم 4.
فأي خلاف يرد إلى الأصل والدليل الصحيح الصريح، ولا اجتهاد مع نص، ولولا الدليل لقال من شاء ما شاء، وضاعت السنن، فهل هناك خلاف بأن الأصل إخراجها طعامًا.
وهل الخلاف في صحة الأحاديث في ذلك عن النبي؟ قطعًا لا، إذًا لماذا الخلاف أصلًا؟ لوجود بعض الآثار، ولأن الفتوى تختلف باختلاف الأحوال للضرورة والمصلحة الشرعية لمجتمع ما في كل عصر ومصر، مع الالتزام بروح النص الشرعي والرجوع للأصل عند الاختلاف.
وعلى سبيل المثال فقد رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم من أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال لأهل اليمن حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم: "ائتوني بعرض ثياب خميس، أو لبيس في الصدقة مكان الشعير، والذرة أهون عليكم، وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة".
فهذه مصلحة راجحة، وليس هناك ما يمنع عند المصلحة والضرورة من إخراج النقود مكان الطعام في زكاة الفطر، إذا كان يترتب على إخراجها طعامًا مشقةٌ، ولا إنكار أن إخراجها مالًا عند الضرورة والمصلحة والمشقة تجوز، وهي تقدَّر بقدرها وفي الحديث: "مَن أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومَن أدَّاها بعد الصلاة، فهي صدقة من الصدقات"؛ حسنه الألباني في الإرواء رقم، 843، فمثل ذلك الفعل لا يشك عاقل بضرورته، وأبو حنيفة رحمه الله وغيره من السلف أجازها على سبيل المصلحة ولم يقل أنها خير من الإطعام مع وجود الحاجة له، وسنة نبينا لا مجال فيها للهوى بلا مبرر شرعي، فلا تشريع إلا للرسول كما لا يخفى، فمعلوم أن ترك النصوص الصريحة الواضحة إلى الجواز والاستحسان لبعض الأثار والأقوال للعلماء المعتبرين، قد يصيب من قال به منهم، وقد يخطأ، ومن أصاب من أهل العلم المعتبرين له أجران، ومن أخطأ له أجر الاجتهاد، ونتفهم أن ذلك يجوز للضرورة والمصلحة في بعض الأحوال، واجتهاد العلماء الربانيين مُعتبر شرعًا، والضرورة تقدَّر بقدرها، ولكن ما يحز في القلب ويدميه أن يصبح الأصل وأوسعه وأيسره انتشارًا بين العباد عليه هو النقود، وهو اجتهاد قد يصيب، وصار الاستثناء هو الإطعام، وهو الثابت في السنة بلا اختلاف بين أهل العلم قاطبةً في أنه الأفضل والاحسن، والسنة الثابتة، وأن مَن أخرَجها طعامًا قد برِئت ذمتُه دون خلاف.
ونقول: إن الأدلة فوق كل اعتبار، والأصل إخراج زكاة الفطر طعامًا، وأبو حنيفة وعلماؤنا الأفذاذ مالك والشافعي وأحمد بن حنبل - عليهم سحائب الرحمة - شهد لهم الداني والقاصي بعلوِّهم وعلمهم في كل عصر ومصر، ونستطيع أن نقول أن العلماء في ذلك على ثلاثة أقوال:
منهم من قال: لا يجوز إخراجها نقدًا، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة.
ومنهم من قال: يجوز إخراجها نقدًا، وهذا مذهب الحنفية.
ومنهم من قال: يجوز إخراجها نقدًا إذا اقتضتْ ذلك حاجة أو مصلحة، وهذا قول في مذهب الإمام أحمد، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية.
ولا شك عندنا أن أدلة إخراجها طعامًا هو الأرجح والأسلم والسنة المؤيدة بالأدلة الصحيحة التي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، ولقد قرأت كلامًا طيبًا لبعض الأفاضل، جاء فيه: إخراجها نقودًا مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنهم أخرجوها طعامًا برغم توافر المال حينذاك، وبرغم حاجتهم إليه، وقد كان مجتمعهم أشد فقرًا وحاجة من مجتمعنا اليوم، فلو جاز إخراج المال لبيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لهم ولمن بعدهم.
وأضاف موضحًا الأسباب:
• لأن الله عز وجل شرع أنواعًا للزكاة، ونص في كل نوع على إخراج أشياء من جنسه، فنص في الزروع على زرع، وفي المال منه، وفي الأنعام منها، وفي الكفارات على كسوة وإطعام وعتق رقبة، وفي الفطر على طعام، ولم يذكر معه غيره، فدل هذا التغاير على أن هذه النصوص مقصودة لله عز وجل، كلٌّ في موضعه.
• لأن إخراج زكاة الفطر طعامًا ينضبط بالصاع، أما إخراجها نقودًا فلا ينضبط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم عيَّنها من أجناس مختلفة وأقيامها - أثمانها - غالبًا مختلفة، فدل ذلك على أن القيمة ليست معتبرة، وأن المعتبر هو المقدار؛ أي: الصاع، وإلا فعلى قيمة (ثمن) أي شيء تحدد الزكاة؟ هل تحدد على قيمة الزبيب مثلًا أو القمح، وواضح فرق القيمة بينهما مع أن الكيل واحد، وهذا ما يوقع القائلين بالقيمة في تخبُّط؛ لأن إخراجها طعامًا يناسب كل زمان ومكان وحال، فما قيمة النقود في حال الحروب أو التضخم الاقتصادي أو الاحتكار، وارتفاع الأسعار والغلاء كما هو حاصل الآن؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ انتهى.
علينا اتباع النبي والحذر من مخالفة أمره، فهو أمر من الله تعالى، والآيات في ذلك كثيرة؛ منها: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36]؛ قال السعدي في تفسيرها ما مختصره: فلا يليق بمؤمن ولا مؤمنة ﴿ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا ﴾ من الأمور وحتَّما به وألزَما به، ﴿ أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ﴾؛ أي: الخيار، هل يفعلونه أم لا؟ بل يعلم المؤمن والمؤمنة أن الرسول أولى به من نفسه، فلا يجعل بعض أهواء نفسه حجابًا بينه وبين أمر الله ورسوله؛ ا.هـ.
والخلاصة أن الحكم ثابت وهو إخراج الزكاة صاعًا من طعام حسب أحوال كل بلد، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر؛ قال الإمام أحمد: "أخاف ألا يُجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: "لا تجزئ قيمة أصلًا؛ لأن ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وأختم هذه السؤال بكلام وتعليق منقول من كلام الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في هذا الموضوع إكمالًا للفائدة قال: "ولا عبرة بقول من قال من أهل العلم: إن زكاة الفطر تجزئ من الدراهم؛ لأنه ما دام بين أيدينا نص عن النبي عليه الصلاة والسلام، فإنه لا قول لأحد بعده، ولا استحسان للعقول في إبطال الشرع، والله عز وجل لا يسألنا عن قول فلان أو فلان يوم القيامة، وإنما يسألنا عن قول الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 65]، فتصوَّر نفسك واقفًا بين يدي الله يوم القيامة وقد فرض عليك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أن تؤدي زكاة الفطر من الطعام، فهل يمكنك إذا سُئلت يوم القيامة: ماذا أجبتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في فرض هذه الصدقة؟ فهل يمكنك أن تدافع عن نفسك، وتقول: والله هذا مذهب فلان وهذا قول فلان؟ الجواب: لا ولو أنك قلت ذلك لم ينفعك، فالصواب بلا شك أن زكاة الفطر لا تجزئ إلا من الطعام، وأن أي طعام يكون قوتًا للبلد، فإنه مجزئ)؛ ا هـ.
ونكرر القول: نحن لا ننكر أن إخراجها مالًا قال به بعض أهل العلم والسلف، وليس أبو حنيفة فقط، فقد قال به من التابعين سفيان الثوري، والحسن البصري، والخليفة عمر بن عبدالعزيز، ورجَّحه ابن تيمية عند المصلحة - عليهم سحائب الرحمة - ولكن الجميع بلا خلاف على سنية الإطعام في زكاة الفطر، وأنه الأصل ومحل الخلاف بجوازها مالًا هو اجتهاد للمصلحة والضرورة، وليس كل الناس كذلك ليعم الجميع بلا استثناء، فالكل يريد إخراجها مالًا ليستريح من عناء إخراجها حبوبًا في زعمه، فمن المعلوم أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا حق فقد يكون الطعام هو المصلحة في بلد تعاني من المجاعة، وقد يكون في المال في بلد يتوفر فيه الطعام، ويندر فيه المال لشراء ما ينفع الفقير، أما في مصر مثلا فالأفضل طعامًا، فغلاء الأسعار يقابله انخفاض قيمة المال، وخُذ على سبيل المثال أن لجنة الإفتاء جعلت نصيب الفرد ثلاثة عشر جنيهًا حدًّا أدنى لزكاة الفطر، ولا أحد يبحث عن الأعلى بل الأدنى، ولو كان عشر جنيهات إلا من رحم ربي، فماذا تنفع الثلاثة عشر أو حتى الخمسين جنيهًا، فالطعام أصبح أهم من المال في مجتمعنا، وليس العكس فتأمَّل!
فالرجوع للسنة هو الأصل، وصحيح أن الفتوى تتغير باختلاف الأحوال، ولكن هناك خلط في هذه المسألة يقع فيها كثير من الناس نبدأ بتوضيحه:
جاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام: "إن الأحكام التي تتغير بتغير الأزمان هي الأحكام المستندة على العرف والعادة; لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناءً على هذا التغير يتبدل أيضًا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة تتغير الأحكام"؛ درر الحكام 1/ 47، وانظر: القواعد الفقهية على المذهب الحنفي والشافعي؛ للدكتور محمد الزحيلي ص: 319.
وقد نقل الزركشي عن العز بن عبدالسلام أنه قال: "يحدث للناس في كل زمانٍ من الأحكام ما يناسبهم؛ قال: وقد يتأيَّد هذا بما في البخاري عن عائشة أنها قالت: لو علم النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدثته النساء بعده لمنعهنَّ من المساجد؛ أحدثته النساء: يعني من الزينة والطيب وحسن الثياب؛ شرح صحيح مسلم 1/ 329.
وقال ابن القيم بعد أن ذكر أن الفتوى تختلف باختلاف الزمان والمكان والعوائد والأحوال، ما نصه: "هذا فصل عظيم النفع جدًّا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيمٌ على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه - ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها"؛ إعلام الموقعين 3/ 14.
ثم إن الإمام أبا حنيفة كما أجاز المال في زكاة الفطر، أجاز غير ذلك للحاجة والضرورة، وعلى سبيل المثال:
• ما ذكره السرخسي أن الإمام أبا حنيفة في أول عهد الفرس بالإسلام، وصعوبة نطقهم بالعربية، رخص لغير المبتدع منهم أن يقرأ في الصلاة بما لا يقبل التأويل من القرآن باللغة الفارسية، فلمَّا لانت ألسنتهم من ناحية، وانتشر الزيغ والابتداع من ناحية أخرى، رجع عن هذا القول؛ انظر: المبسوط 1/ 98.
وكذلك قول الحنفية: إن خاف - أي الرجل - من الولد السوء في الحرة يسعه العزل بغير رضاها لفساد الزمان، فليعتبر مثله من الأعذار مسقطًا لإذنها؛ قال ابن عابدين معقِّبًا على هذا: بأنه تقييد من مشايخ المذهب لتغيُّر بعض الأحكام بتغيُّر الزمان؛ رد المحتار10/ 242.
وبناءً على ما سبق يتبيَّن لك أن ضابط فَهْم هذه العبارة كما ذكر علماؤنا في أمرين:
أ- التغير في الفتوى لا في الحكم الشرعي الثابت بدليله.
ب- التغير سببه اختلاف الزمان والمكان والعادات من بلد لآخر.
والخلاصة أن الحكم ثابت وهو إخراج الزكاة صاعًا من طعام، والفتوى تتغير بخصوص الطعام حسب أحوال كل بلد، أما القول بأن ذلك يفتح باب الاجتهاد في الحديث كله، فغير صحيح، وقد ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز إخراج القيمة في زكاة الفطر؛ قال الإمام أحمد: "أخاف ألا يجزئه، خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وهذا مذهب مالك والشافعي، وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: "لا تجزئ قيمة أصلًا؛ لأن ذلك غير ما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم". ونكرر أن إخراجها مالًا دون مبرر شرعي وضرورة أمرٌ مخالف للسنة الثابتة بعمل النبي وأصحابه من بعده.
هذه هي خلاصة المسألة، وهي أن الخلاف في زكاة الفطر معروف ومشهور بين أهل العلم، والصواب مع مَن يقول تُخرَج حبوبًا كما ثبَت بالنص والدليل، ولا يصح في حق النبي صلى الله عليه وسلم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وأنها تخرج من غالب قوت البلد، فالعبرة في سد احتياجات الفقير من الطعام، والعبرة عند الخلاف بما دل عليه الدليل، ويدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ [النساء: 59].
هذا والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل