حلقات الحل الإسلامي لعلاج الغلو والتطرف
تابع الحلقة الخامسة-الجزء الثاني عشر
وصايا لعلاج العلو وانحراف الفكر الاقتصادي والتجاري
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد: هذا هو الجزء الثاني عشر والأحير من الحلقة الخامسة وهي آخر حلقات هذا البحث القيم ولا اخفي عليكم هناك وصايا أخري في الرياضة والفن وغير ذلك تركنا طرحها لعدم التطويل وكان تركيزنا عن الأهم وعموما سننشر هذا البحث كاملاً في كتاب وننشره علي الشبكة وهنا علي صفحتي وحقوق طبعه لكل مسلم لا أسأله أجراً وهو في حل مني وله أن يطبعه سواء كصدقة جارية أو للتجارة شريطة عدم التعديل فيه وحقوق التأليف باسمي والله المستعان وعليه التكلان.
ونبدأ ونقول بجول الله وقوته الاقتصاد والتجارة من الأعمدة الرئيسة لأي مجتمع معاصر ولهُ مفهومين كما يقول أهل الذكر من الاقتصاديين وهما:
-الأول الاقتصاد الفرديّ: وهو من سعي كل فرد في المجتمع قادراً علي العمل والتحصيل لشراء احتياجاته الشخصية والأسرية وغير ذلك مع يقينه بأن الرزق مضمون وأن التوصل إليه يكون بالسعي والجهد والتوكل علي الله تعالي هذا ما تطلبه منه الشريعة الربانية أما التواكل وعدم السعي بحجة أن الله ضمن الرزق للعباد فهو لاشك سلبية وغلو وانحراف عن الحق وفقدان لإرادة الحياة وهو مذموم في الشريعة التي حثت علي العمل والسعي.
كما قال -تعالي-:{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا في مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ }- الملك:15
وهذا لاريب في فوائده الاقتصادية وأثاره الاجتماعية حيث التعاون المثمر بين أفراد المجتمع وبعضهم بعضاً يزيد من ترابطهم وتجانسهم ويحقق الاستفادة القصوى للمجتمع ككل وهوَ يشمل كلّ نشاط بدنيّ أو ذهنيّ لكسب المال الذي يكسبهُ الفرد من تعبهِ وعرقه ولا يكون عالة علي مجتمعه وغيره.
وقال أيضاً-صلي الله عليه وسلم " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده و إن نبي الله دأود كان يأكل من عمل يده." (1)
يقول د.عبد الجبار حمد عبيد السبهاني في كتابه "الوجيز": إن الإنسان لكي يحرز قوته فلا بد له من الاكتساب لان " التغلب والانتهاب " من المحضورات الشرعية فلم يبق الا الاكتساب الذي به قوام الإنسان بهذا الفهم الوظيفي للاستهلاك والاكتساب يحدد الأمام الغايات ويرسم الحد الفاصل بين الواجبات والمحظورات. إن حفظ النفس مقصد من مقاصد التشريع ولا يتسنى ذلك إلا بالاستهلاك لذا فهذا القدر من الاستهلاك فرض واجب ومن امتنع عن ذلك يكون كمن قتل نفسه عمدًا فيستحق لذلك النار،بل هو يشدد بأن الجائع المضر يفترض عليه الاكل من الميته بالقدر الذي يقيم حياته فأن لم يفعل فمات دخل النار، وبهذا المعنى يكون قدر من الاستهلاك فرض واجب وما زاد يكون مباحاً فان قضى شهواته ونال لذاته بالحلال فهو مرخص له محاسب عليه مطالب بشكر النعمة وحق الفقراء فيها فما زاد عن الشبع فأنه يعرض صاحبه للعقوبة.
وحتى يستطيع الأفراد إشباع حاجتهم فلابد من التخصص وتقسيم العمل لأن الإنسان لا يستطيع أن يتعلم وينتج كل ما يلزمه لذا لابد من التعاون مع أعضاء الهيئة الاجتماعية حتى يتحقق من ذلك كمال التسخير فالناس تختلف ملكاتهم ويحتاج بعضهم إلى بعض واستحضار هذه النية يفيد التعاون على البر والتقوى.اهـ( 2)
-والثاني الاقتصاد الدولي: وهوَ اقتصاد قومي لكل دولة يقوم على المُعاملات الاقتصادية بين دول العالم والتعاون فيما بينهم بالاتفاقيات والمعاهدات وما اشبه ذلك، ويهتمّ بالعلاقات التجاريّة بين الدول وقدرة الدولة على التنافس في السوق العالميّ فهو معيار قوتها وسلامة اقتصادها التجاري، لأنه له مردود مالي يساهم في تقويتها ورفع أسلوب المعيشة بين أفرادها.
والتجارة كانت موجودة في زمن النبي-صلي الله عليه وسلم-ولكنها في المجتمعات المعاصرة تطورت بشكل رهيب ودخلت في التجارة كل شيء وأي شيء حتي المحرمات كالتجارة في الخمور والأعضاء البشرية وغيرهما من الطامات والمصائب وهنا مربط الفرس كما يقولون.
فالشريعة وضعت معايير وحدود لا يجوز الخروج عنها مهما كان التطور وذلك في كل عصر ومصر والخروج عنها غلو وانحراف عن وسطية الإسلام ومنهجه القويم وأعظمها في الاقتصاد المعاصر هو التعامل بالربا علي مستوي منحرف في العالم كله وكفي أن القرآن والسنة في الحديث عن الرّبا وأهله مخيف وخطير، وفيه من الوعيد والتهديد الشّديدين للّذين يتعاملون به في كلّ زمان ومكان ما يشيب له الولدان، حتّى وصل التّرهيب منه إلي أنّ الله عز وجل يحارب الذين لا يتركون الرّبا، فقال -تعالي-:{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ }- البقرة:279-278
نسأل الله أن يعافينا من شرها وأثارها علي الجميع ونتمنى من الله تعالي التوفيق والسداد في إصلاح الاقتصاد والتجارة للأمة الإسلامية ومجتمعاتها الضعيفة الهشة لما أصابها من وهن عندما تركت مصدري قوتها وعزتها كتاب الله وسنة رسوله-صلي الله عليه وسلم- ولا مندوحة من الرجوع إلي تحكيم الشريعة لأن الغلو والانحراف عنها ضياع لها ولهوية الأمة ومستقبلها وما ذكرنا هنا حيض من فيض.
ونبين هنا الوصايا المقترحة لعلاج الخلل والغلو في المجال الاقتصادي والتجاري التي نراها ملتمسين خبرة أهل التخصص من علماء الاقتصاد والشريعة نذكر منها:
1-تجريم وتحريم التعامل بالربا بكل صوره واشكاله المستحدثة واساليبه الملتوية والتحول للاقتصاد الإسلامي بضوابطه الشرعية ووضع آليات التنفيذ بلا تردد ومعالجة أثار التحول بالتدرج المدروس.
لا يغيب علي العقلاء من أهل التخصص والشريعة أن الربا آفة من الآفات، إذا أصاب اقتصاد دولة ورضيت به عن شريعة الله تعالي دمرته واهلكته وصار أهله علي شفا الفقر والإفلاس عاجلاً أو آجلاً لأنَّ بلايا الربا لا تظهر مرة واحدة في كيان المجتمع واقتصاده بل بالتدريج، والله يمهل ولا يهمل.
ومن صور الربا في المعاملات المعاصرة كما يقول أهل الاختصاص:
الفائدة على القروض بين الأفراد أو الفائدة على السلفيات والقروض التي يحصل عليها الأفراد من الحكومة أو وحداتها، أو تأجيل سداد الديون المستحقة مع الزيادة، أو القروض المشروطة بحصول الدائن على منفعة، أو الزيادة في الديون التجارية بسبب زيادة الأجل أو بوالص التأمين التجاري أو على الحياة وما في حكمها أو الفوائد على الودائع بين البنوك أو فوائد شهادات الاستثمار على اختلاف أنواعها، كل هذا وغيره ربا محرم قطعاً.
ومهما كانت صور الربا سواء مما ذكرنا أو غير ذلك فهو غلو وانحراف عن الحق وينبغي تركه ولو بسياسة اقتصادية متدرجة لأن الأمر جد خطير والعقاب الشرعي مهيب كما ذكرنا.
2-انشاء جهاز أمنى مختص بمراقبة الأسعار والتجار للحد من الغش والتدليس للثراء السريع في الوزن والسلع والخدمات التجارية وحماية لضروريات الشعب الأساسية التي لا تستقيم حياته إلا بها.
فالتجارة تزخر بطرق عديدة للغش والتدليس من أجل بيع السلع أو الخدمات والله تعالي حث علي الأمانة في التعامل فقال-جل شأنه-: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلي أَهْلِهَا وَإذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا }- النساء:58
وحذر من الغش والتدليس فقال تعالي:{ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإذا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ }- المطففين:1-3
قال السعدي- رحمه الله- ما مختصره: وفسر الله المطففين بقوله { الَّذِينَ إذا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ } أي: أخذوا منهم وفاء عما ثبت لهم قبلهم { يَسْتَوْفُونَ } يستوفونه كاملا من غير نقص.
{ وَإذا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ } أي: إذا أعطوا الناس حقهم، الذي للناس عليهم بكيل أو وزن، { يُخْسِرُونَ } أي: ينقصونهم ذلك، إما بمكيال وميزان ناقصين، أو بعدم ملء المكيال والميزان، أو نحو ذلك. فهذا سرقة لأموال الناس، وعدم إنصاف لهممنهم.
وإذا كان هذا الوعيد على الذين يبخسون الناس بالمكيال والميزان، فالذي يأخذ أموالهم قهرًا أو سرقة، أولى بهذا الوعيد من المطففين.اهـ(3 )
والنبي –صلي الله عليه وسلم –حذر من الأذى والغش وحرض علي الأمانة فقال" من حمل علينا السلاح فليس منا ومن غشنا فليس منا" (4)
وهكذا يرسم النبي –صلي الله عليه وسلم –الطريق ويمهده لعدم الاضرار بالغير والصالح العام و يحرض علي التعاون المثمر في البيع والشراء، ولكن نظرة إلي المجتمعات المعاصرة نجد الكثير من الناس تعاني من ضياع الأمانة والصدق في الخدمات والسلع المعروضة ،ومن ثم ينبغي لوضع الأمور في نصابها الصحيح الحد من هذا الانفلات والغلو في زيادة أسعار السلع أو غير ذلك بجهاز أمني وظيفته ضبط الأسعار وتتفرع منه لجان تنتشر في كل المدن والقري لمراقبة حركة الأسعار والأسواق لوضع آليات لعلاج السلبيات قبل تشعبها والتأكد من توفر السلع الجيدة وغير المغشوشة ويعاقب من يخرج عن حدود الأمانة من المطففين لعقابهم
3-تجريم التنافس غير الشرعي لاحتكار السلعة أو بيعها للسيطرة علي السوق والمستهلكين ممن يملكون المال والنفوذ.
الاحتكار صفة مذمومة وانحراف عن الطريق المستقيم من أجل المال وهو ظل زائل والنبي –صلي الله عليه وسلم-نهي عن احتكار ما يحتاجه الناس فقال"من احتكر فهو خاطئ"(5 )
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ما مختصره: ومثل ذلك (الاحتكار) لما يحتاج الناس إليه، روى مسلم في صحيحه عن معمر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « لا يحتكر إلا خاطئ ». فإن المحتكر هو الذي يعمد إلي شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، وهو ظالم للخلق المشترين، ولهذا كان لولي الأمر أن يكره الناس على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه، مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، فإنه يجبر على بيعه للناس بقيمة المثل، ولهذا قال الفقهاء: من اضطر إلي طعام لغير أخذه منه بغير اختياره بقيمة مثله، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره لم يستحق إلا سعره.اهـ( 6)
قلت: ولا ريب أن الاحتكار للسلع يؤدي إلي أضرار جسمية تضر بمصالح الناس سيما أن كانت من الضروريات التي لا غني للناس عنها؛ إذ تختفي السلع والحاجات و تبقى في أيدي أفرد يحتكرونها فترتفع أسعارها فوق ما تستحقه من الأثمان.
ولا يغيب عند العقلاء أن هذا يحدث في النظم الوضعية الجائرة التي تجيزه أو تتغاضى عنه كالرأسمالية والماركسية دون رادع يحفظ للناس حقهم.
والإسلام حينما حرَّم الاحتكار أراد إرساء مبدأ التعاون والتكافل بين الناس ولذلك لم يشمل ذلك التحريم ما يدخره الإنسان في بيته من قوته وقوت عياله طالما لا ضرر من ذلك بالمصالح العامة للناس وكذلك ما تختزنه الدولة في ميزانيتها للظروف والأزمات الاقتصادية مما لا يضر بمصالح العباد.
ومن صور الاحتكار والتدليس التي نراها رؤية عين أن هناك بعض البائعين أو التجار يأتي إلي السوق وقبل دخوله حيث الجميع ينتظر رزقه من الزبائن فيبيع هو بضاعته ويعرضها قبل دخوله السوق بمسافة ليحتكر الزبائن لنفسه هذا من جهة ومن جهة أخري يستغل جهل المشتري بأسعار السوق التنافسية في داخله فيزين بضاعته ويغالي في السعر عن الموجود في السوق وهذا احتيال وغش وغلو ومخالفة صريحة لقول النبي-صلي الله عليه وسلم –" لا يبيع بعضكم على بيع بعض ولا تلقوا السلع حتى يهبط بها إلي السوق" (7)
-ويضيف شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوي" ما مختصره وبتصرف: ومن المنكرات تلقي السلع قبل أن تجيء إلي السوق، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك لما فيه من تغرير البائع، فإنه لا يعرف السعر فيشتري منه المشتري بدون القيمة، ولذلك أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له الخيار إذا هبط إلي السوق، وثبوت الخيار له مع الغبن لا ريب فيه، وأما ثبوته بلا غبن ففيه نـزاع بين العلماء.اهـ(8)
ونري أن يأخذ الجهاز المسئول عن أمن الذي ذكرناه أنفاً بيد هؤلاء وعقابهم ومنعهم من البيع خارج السوق لمنع ذلك الغلو والغش والله المستعان.
4-تجريم انتشار التجارة الدعائية دون حماية للمستهلكين من الاحتيال والخداع بفرض تصاريح خاصة من الجهات المختصة بمراقبة السلع لبيان صلاحيتها للتداول في السوق.
.التجارة الدعائية انتشرت بشكل هستيري في وسائل الإعلام المختلفة لأي سلعة أو خدمة دون ضابط لها أو رابط وأغلبها إلا من رحم ربي منهم يغالي في الدعاية بالمال مراراً وتكراراً ونحن لا نري حرمة الدعاية المعتدلة ولكن ينبغي أنشاء جهاز خاص احترافي ومتخصص لهذا النوع من التجارة ويضم لجان متفرعة منه ومنتشرة في السوق التجاري لمتابعة السلعة المعروضة دعائياً وإعلامياً ومراقبتها والتأكد من صلاحيتها بل وينبغي عدم السماح لأي وسيلة إعلامية من الدعاية للسلعة أو الخدمة إلا بتصريح خاص بصلاحيتها من الجهات المعنية وهي هذا الجهاز الرقابي الذي يتبع المسئولين من أهل الحل والعقد لتنفيذ السياسة الاقتصادية والتجارية للدولة وتحت اشرافهم المباشر.
5-وضع سياسة واضحة صارمة بلا إفراط أو تفريط لسد العجز والتضخم الاقتصادي للدولة بسبب التجارة الدولية المحرمة ومبارزة رب العباد بالمعاصي ومنع اصدار القرارات غير المدروسة جدواها أو التي تتصادم مع نصوص الشريعة.
وهناك كما لا يخفي في المجتمعات الإسلامية المعاصرة تعامل تجاري محرم مع دول العالم وتستورد منها ما يتصادم مع نصوص الشريعة وبالتالي تتسبب في خسائر اقتصادية لحرمتها من جهة والمال الحرام الذي لا بركة فيه فيسبب الخسائر الفادحة من جهة أخري كالتجارة في الخمور واستيراد التبغ لصناعة السجائر واضراره لا تحصي ولا تعد وتضر أكثر مما تنفع وغير ذلك من الخبائث التي حرمها الله تعالي ورسوله –صلي الله عليه وسلم- كما قال -تعالي-:{ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْـزِلَ مَعَهُ أولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }– الأعراف:157
ولن تتقدم الامة الإسلامية ومجتمعاتها ولن تحل البركة ورعاية الله تعالي لنا وهو العزيز الحكيم، ولن ينتهي هذا الغلو بأنواعه وأقسامه والانحراف بكل صوره وألوانه إلا بالعودة للكتاب والسنة وفيهما الإيمان والتقوي والبلسم الشافي لكل الفتن والابتلاءات وسر الحياة للمجتمعات المؤمنة كما كانت في طورها الأول أيام النبي-صلي الله عليه وسلم- والخلافة الراشدة، ويدل علي ذلك قوله تعالي وهو الحق الذي لا يأتيه الباطل أبداً:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }–الأعراف:96
قال السعدي- رحمه الله ما نصه في تفسيرها: لما ذكر تعالي أن المكذبين للرسل يبتلون بالضراء موعظة وإنذارا، وبالسراء استدراجا ومكرا، ذكر أن أهل القرى، لو آمنوا بقلوبهم إيمانا صادقا صدقته الأعمال، واستعملوا تقوى اللّه تعالي ظاهرا وباطنا بترك جميع ما حرم اللّه، لفتح عليهم بركات السماء والأرض، فأرسل السماء عليهم مدرارا، وأنبت لهم من الأرض ما به يعيشون وتعيش بهائمهم، في أخصب عيش وأغزر رزق، من غير عناء ولا تعب، ولا كد ولا نصب، ولكنهم لم يؤمنوا ويتقوا { فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } بالعقوبات والبلايا ونـزع البركات، وكثرة الآفات، وهي بعض جزاء أعمالهم، وإلا فلو آخذهم بجميع ما كسبوا، ما ترك عليها من دابة. { ظَهَرَ الْفَسَادُ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }–الروم:41.اهـ(8)
ونقترح لتفعيل هذه الوصية أنشاء مجلس شوري يضم جهابذة الاقتصاد الوطني مع رعاية تشريعية من علماء الشريعة لوضع القرارات وحاجة الامة من السلع والخدمات الاقتصادية والتجارية تحت المجهر وبيان مميزاتها وسلبياتها ووضع الضوابط الاقتصادية وحلولها الشرعية لأهل الحل والعقد لاتخاذ القرار الصحيح.
ولا نكتفي بالبحث عن حلول اقتصادية جاهزة وخبيثة لا تناسب امكانيتنا وتخالف شريعتنا فكما لا يخفي من أكبر أسباب الغلو الاقتصادي والانحراف عن الشريعة في هذا الصدد هو التقيد بالمذاهب دون فكر أو امعان نظر.
مع خبث الخبثاء وتضليل السفهاء ستظل الأمة علي تبعياتها وتخلفها مالم تبدأ في إعادة النظر بثقة وإيمان بالحلول الاقتصادية الفذة التي بينتها الشريعة من حيث الحل والحرمة وهو مربط الفرس كما يقولون.
- يقول مالك بن نبي- رحمه الله- ما نصه:إذا تأملنا الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة المشكلات الاقتصادية، نرى أنه يضيّق على نفسه مجال اجتهاده، بمقتضى مسلمات ضمنية يمكن حصرها تقريباً فيما يلي:
1) إنه يفكر أولاً على أساس أن الموجود من المناهج الاقتصادية هو ما يمكن إيجاده.
2) إن النشاط الاقتصادي لا يمكن من دون تدخل المال، سواء في صورة استثمار، تنظمه وتشرف عليه قطاعات خاصة أو استثمار تهيمن عليه سلطة سياسية، فيما يسمى القطاع العام.
ومن هنا يبتدئ تعثر الفكر الإسلامي بصعوبات تنشأ من طبيعة موقفه من الأشياء، لا من طبيعة الأشياء ذاتها.
فالمسلمة الأولى، مثلاً، تضطره إلى الاختيار بين الرأسمالية وبين الشيوعية.
وإذا به يجد نفسه-مهما كانت ميوله- أمام مشكلات فنية أو مذهبية أو على الأقل أخلاقية، تضيف إلى متاعبه ما شاء الله، لأنه لا يجد لها حلاً في نطاق اختياره في كلا الاتجاهين، إلا على حساب مبادئه الأولية، وبالتالي على حساب شخصيته وهويته من التاريخ.
فإن جنح إلى الرأسمالية فسرعان ما يصطدم بإباحيتها، القائمة على المبدأ الذي عبر عنه (آدم سميث)، في بداية العهد الاقتصادي الحديث، في عبارته الشهيرة "دعه يعمل، دعه يسير".
والآن بعد قرن ونصف، يرى المسلم بكل وضوح أين يؤدي هذا، إلى أي اضطراب اجتماعي يؤدي بالمجتمع الذي يسير هكذا، إلى أي انحرافات ثقافية تنشأ فيه متخذة ردود أفعال ضرورية أمام إفراط في الإنتاج وتفريط في التوزيع، فتنشأ الماركسية مثلاً وتقوم على أساسها الثورات الشيوعية لتعيد المياه لمجاريها في عالم الاقتصاد حسب زعمها.
ولا يصطدم المسلم في هذا الاتجاه، بإباحية الرأسمالية فحسب، أي بروحها فقط، بل سيصطدم أيضاً بشروطها أو بعض شروطها الفنية؛ لأن الرأسمالية تقتضي استثمار المال بوصفه الوسيلة الوحيدة لدفع عجلة الاقتصاد، وإذا بها تلجأ لعملية تجميع الأموال وتركيزها في مؤسسات معينة كالبنوك، لتقوم هي بتوزيعها وتوظيفها في القطاعات الإنتاجية المختلفة، على أساس الربا في عمليتي التجميع والتوزيع.
وإذا بالمسلم الذي يختار هذا الاتجاه يغوص في محاولة تخليص الرأسمالية من الربا، لأنه محرم في شريعته.
وكأنه من الناحية الفنية يحاول تخليص جسد من روحه، ويرجو أن الجسد سيبقى حياً وسيقوم بمهماته.
وإن نجح في إيجاد حل نظري في قضية الربا يطابق الفقه الإسلامي، فيكون كأنه وجد روحاً لا يضمه جسد، أو تناقض مع جسده؛ لأن نظام البنوك يرفض هذا الروح وهو يرفضه، فيبقى الحل النظري معلقاً عملياً، لأن صاحبه انطلق على أساس مسلمة استثمار المال بصفته منطلق للديناميكا الاقتصادية، دون أن يراجع هذا المبدأ نفسه.
وربما يلتفت المسلم، بعد خيبة أمله في الرأسمالية، في الاتجاه الأخير، في اتجاه الاقتصاد الشيوعي، وبكلمة ألطف: في اتجاه الاقتصاد الاشتراكي، لا لأنه بذ منطلقاته المذهبية غالباً، بل لأنه بعد أن شاهد مساوئ الرأسمالية وتناقضها أخلاقياً وتقنياً مع الفقه الإسلامي، يشاهد نجاح الخطط (الاشتراكية) في الاقتصاد.
وهنا أيضاً، سرعان ما يصطدم المسلم ببعض جوانب هذه الخطط المتعارضة مع الفقه الإسلامي، مثل تحديد الملكية أو إلغائها، بقطع النظر عن التعارض الأساسي بين المادية والإسلام، تعارضاً أعمق من التعارض مع الليبرالية، أو قضية الربا.
وفي هذا الاتجاه، لم يبق على الاختصاصي أو السياسي المسلم إلا أن يطبق المنهج (الاشتراكي)، دون مراجعة أسسه المذهبية البعيدة، وأسباب نجاحه في البلاد التي طبقته على نسبة تمسكها بالفكرة الماركسية بصفتها عقيدة، كما يراها دارسون مثل (سيرج بردائيف S. Berdaef) أو (فالتر شوبرت W. Shubart)، ودون نظرة في نتائج أو توقعات الفتور عندما يعتري (العقيدة) الماركسية، بدورها، ويجعلها غير قادرة في الميدان الاقتصادي، على تعويض أو تغطية بعض الجوانب السلبية في النظرية الاقتصادية الماركسية، التي أثرت من دون جدال علم الاقتصاد بمفاهيم جديدة مثل فائض القيمة ( Plus-value) أو الإنتاج على أساس الواحد أو الوحدة ( Productivité) دون أن تشعر أنها مست الطاقة الإنتاجية في جوهرها.
عندما مست مبدأ الملكية الفردية، أعني عندما ألغت أو خفّضت من قيمة وازع الامتلاء الذي يتصرف حسب مدرسة (بافلوف) الروسية (السوفييتية كان نعلم)، في الربع-على الأقل- مما أسميه بالطاقة الحيوية Energie vitale الموزعة في إمكانيات الحيوان عامة والإنسان خاصة عندما حصل ذلك جاء هذا الأخير منتجاً أومستهلكاً على نسبة ما فيه من هذه الطاقة البيولوجية.
بينما الفتور- أو الشيخوخة الاجتماعية- متوقع في المجتمع (الاشتراكي) كما هو شأن كل المجتمعات، وإذن سينكشف الضباب عن الحقيقة الاقتصادية الماركسية المجردة من جانبها العقيدي الذي يحقق نجاحها اليوم، فينتهي المجتمع الشيوعي الحديث، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة كمجتمع القرامطة الذي انهار في ومضة بصر، بعد أن هدّد الدولة العباسية في عز قوتها، وكالمجتمع الذي سبقه بإيران قبل البعث الإسلامي.
فإذا كانت ظاهرة (الفتور) تصيب كل المجتمعات في عصر شيخوختها، فإنها تستعجل الشيخوخة في المجتمعات التي تفقد مسبقاً عوامل الاستقرار النفسي، ولا تستطيع الاستمرار إلا في حالة تغير متواصل وحركة ديناميكية مستمرة، مثل المجتمعات الشيوعية السابقة التي لم تستقر أوضاعها إلا في فترة نشوئها وتشييدها.
لذلك لا نرى اختيار المسلم- على أساس مسلمته- إلا محدوداً في الاتجاهين كليهما بعوامل بعضها فني وأخلاقي وبعضها فني ونفسي وعقائدي.
وفي الاتجاهين كليهما نراه في محاولة تركيب روح إسلامية على جسم أجني يرفضها وترفضه.اهـ( 10)
قلت: وفي كلامه-رحمه الله-بيان شافي وفكر لماح لما ينبغي علينا أن نفعله في عصرنا هذا من العودة إلي اصولنا الراسخة وتقاليدنا الأصيلة في أطار تعاليم ديننا وشريعتنا الغراء التي هي سبب عزتنا وكرامتنا والبرهان علي هويتنا وثقافتنا بين الشعوب شاء من شاء وأبي من أبي.
وبهذا الجزء من الحلقة الخامسة نكون قد طرحنا الحلول الإسلامية لمشكلة التطرف والغلو علي جميع الأصعدة المهمة في الأمة من وجهة نظرنا واجتهادنا وبأسلوب منهجي وعمدتنا القرآن والسنة وأقوال أهل العلم الثقات من أهل السنة والجماعة فيما يخص النواحي الشرعية وبعيدا عن القدح والذم فهدفنا الإصلاح ما استطعنا ونرد بقوة عمن يقول أن الإسلام مجرد تعاليم روحية لا علاقة له بدنيا الناس ولا يصلح في عصرنا هذا لتخرس هذه الألسنة وتستحي وما علي الرسول إلا البلاغ والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
---------------------
( 1) - سبق تخريجه
(2 ) - الوجيز في الفكر الاقتصادي الوضعي والإسلامي (ص/ 337 )-د.عبد الجبار حمد عبيد السبهاني –دار وائل للنشر-عمان-الأردن-الطبعة الأولي سنة 2001م
(3 ) - انظر " تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/ 915)- الناشر : مؤسسة الرسالة- تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق- الطبعة : الأولى 1420هـ -2000 م.
(4 ) -أخرجه مسلم (برقم/101)- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا»
(5 ) -أخرجه مسلم (برقم/1605)- باب تحريم الاحتكار في الأقوات
( 6) - انظر كتاب "الحسبة في الإسلام" أو وظيفة الحكومة الإسلامية لابن تيمية(ص/21 )-نشر دار الكتب العلمية-بيروت-لبنان- الطبعة: الأولى –لا يوجد سنة الطبع –المصدر المكتبة الوقفية
(7 ) - أخرجه البخاري (برقم/ 2165)- باب النهي عن تلقي الركبان وأن بيعه مردود
(8 ) - انظر " مجموع الفتاوى" لابن تيمية (28/74)-تحقيق: عبد الرحمن بن محمد بن قاسم- نشر مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، المدينة النبوية، المملكة العربية السعودية-سنة: 1416هـ/1995م
(9 ) - انظر " تيسير الرحمن في تفسير كلام المنان" لعبد الرحمن بن ناصر السعدي (ص/ 298)- الناشر : مؤسسة الرسالة- تحقيق : عبد الرحمن بن معلا اللويحق- الطبعة : الأولى 1420هـ -2000 م.
( 10) - انظر كتاب"المسلم في عالم الاقتصاد"(ص/42) لمالك بن نبي-نشر دار الفكر-دمشق سورية- الطبعة: 1420هـ - 2000م