حلقات الحل الإسلامي لعلاج الغلو والتطرف
تابع الحلقة الخامسة-الجزءالرابع
وصايا لعلاج الغلو وانحراف الفكر الاجتماعي والأخلاقي(1)
إنَّ الحمد لله نحمده، ونَسْتعينه ونستغفرُه، ونعوذ بالله من شُرور أنفُسِنا، وسيِّئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أمَّا بعد: هذا هي الحلقة الخامسة والأخيرة وهذا هو الجزء الثالث منها وفيه نبين أطروحتنا من وصايا لعلاج الغلو وانحراف الفكر الاجتماعي والأخلاقي في المجتمعات المسلمة من منظور شرعي وقسمنا هذه الوصايا علي ثلاث أجزاء متتالية لعدم الإطالة والله المستعان
المجتمع الذي يكثر فيه الغلو في الدين والانحراف عن منهجه القويم هو مجتمع لا يدوم أبداً ولا يترقى ولا يتحضر ولو طبق أفضل الدساتير والقوانين الوضعية التي انتجتها قريحة البشر.
وأن مما يدمي القلب هذا الانحلال والمجون في مجتمعاتنا الإسلامية لكثرة اتباعنا للتقاليد الغربية وغيرها من بلاد الكفر والشرك بعيداً عن هدي شريعتنا الغراء وهذا قطعاً فيه مخالفة فظة لقول لله تعالي :
{ اتَّبِعُوا مَا أُنْـزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أولِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ }( 1)
وإذا التمسنا للبعض منا الاعذار للجهل أو الغفلة فأين نحن من قول نبينا –صلي الله عليه وسلم-" لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبرا بشبر أو ذراعا بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه قالوا: اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟ "(2 )
حقاً أنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي الصدور التي في القلوب، ونري في علاج هذا الانحراف والغلو في الدين بعدة وصايا منها:
1-معالجة الجهل بصفه عامة والأمية الدينية بصفة خاصة في المجتمع:
إن حاجة البشرية للعلم والعلماء للتقدم والرقي والتكيُّف في دار الدنيا لا تحتاج لبيان أو إقناع؛ لماذا؟.
لأن العلوم والمعارف الشرعية والدنيوية هي المعيار الحاسم الذي تُقاس به قوة وصلابة المجتمعات روحيًّا ودنيويًّا، والجهل بهذه العلوم أو تجاهلها دليلٌ على انحطاط هذه المجتمعات وجاهليتها.
والعلم بالدين بصفه خاصة ليس المقصود به تعلم القراءة والكتابة بل الأمر أكبر من هذا فهناك أحكام وآداب يجهلها كثيراً من المتعلمين والمثقفين وأهل الدنيا وربما يعلمها من لا يقرأ ولا يكتب لورعه وحبه للعلم ومخالطة أهله.
والشريعة –القرآن والسنة-فضلت العالم بدينه عن الجاهل درجات فقال تعالي:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ }( 3) )
وجعلت العلم الديني لصاحبه فريضة وفضل فقال تعالي:{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أولُو الْأَلْبَابِ }(4 )
فالعلوم الشرعية هي أساس بناء الإنسان روحياً وارتباطه الوثيق بخالقه-عز وجل-ولا ينبغي لامة تريد السمو والرقي لرجالها ونسائها واطفالها أن تخطوا خطواتها نحو البناء والتمية والحاق بركب الحضارة ليكون لها شأن بين الأمم وهي تجهل دينها .
ومن ثم ينبغي التنبيه هنا أن العلم الدنيوي لا يكفي وحده بل لابد من الإيمان بالله وطاعته واخلاص العمل له في الأقوال والاعمال، وهذا لا يكون ولا يترسخ في قلب العبد إلا بالعلم الشرعي، ومن ثم كان علماء الأمة سلفاً وخلفاً يدعون للجمع بينهما فكل منهما يكمل الآخر.
-يقول ابن القيم - رحمه الله -:
أفضل ما اكتسبَتْه النفوسُ، وحصَّلته القلوب، ونال به العبد الرفعة في الدنيا والآخرة هو العلم والإيمان؛ ولهذا قرن بينهما سبحانه في قوله:{ وَقَالَ الَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ في كِتَابِ اللَّهِ إلي يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }(5 )، وقوله:{ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }(6 ).
وهؤلاء هم خلاصة الوجود ولبُّه، والمؤهَّلون للمراتب العالية، ولكن أكثر الناس غالطون في حقيقة مسمى العلم والإيمان اللَّذينِ بهما السعادة والرفعة، وفي حقيقتهما، حتى إن كل طائفة تظنُّ أن ما معها من العلم والإيمان هو هذا الذي به تنالُ السعادةَ، وليس كذلك، بل أكثرهم ليس معهم إيمان يُنجي ولا علم يرفع، بل قد سدُّوا على نفوسِهم طُرُقَ العلم والإيمان اللَّذينِ جاء بهما الرسول ودعا إليهما الأمة، وكان عليهما هو وأصحابه من بعده وتابعوهم على منهاجهم وآثارهم" اهـ( 7)
قلت: والمتأمل للمجتمعات المسلمة في عصر الحداثة نجدها نهلت وجمعت بين الغث والثمين ما ينفع وما يضر بلا وعي وخلطت العلوم النافعة التي رفعت من شأن هذه المجتمعات وقدرتها بالتقاليد الشاذة والأفكار المغلوطة والسلوكيات المنحرفة التي تكتوي بها هذه المجتمعات اليوم ونحن في غفلة عن ديننا وشريعتنا وما يحل ومالا يحل فاختلط الحابل بالنابل فأصبحت مجتمعاتنا المسلمة في كثير من بلاد المسلمين في جامعاتها وشوارعها وغير ذلك لا تختلف من حيث التفكك والانهيار الأخلاقي عن جامعات وشوارع باريس وأمريكا.
فكان الاختلاط والتبرج من النساء ومنافسة المرأة للرجل في الصالح والطالح، وضياع السنن واتباع العادات والتقاليد البالية التي ما أنـزل الله بها من سلطان والأعراف الفاسدة المخالفة للشريعة وغير ذلك من انتشار الموضة والعري والتشبه بين النساء والرجال في كل شيء وأي شيء فضلاً عن الزنا وشرب الخمر تحت سمع وبصر وإباحة القوانين الوضعية وغير ذلك كثير.
فكل هذه الأمراض في المجتمعات الإسلامية سببها الغلو في الدين واتباع الهوى الذي يصد عن الحق والعلم الشرعي هو البلسم الشافي الذي يحد من هذا الانفلات.
2-الحد من تبرج النساء لأن المرأة هي أخطر الفتن في أي مجتمع:
لا ريب أن المرآة هي القضية الأساسية للشعوب المتحضرة فهي سلاح للهدم ونشر الإباحية والفجور كما أنها قد تكون سلاحاً للبناء والسمو بالأخلاق والفضائل.
لذلك اهتمت الشريعة الربانية وحرصت علي تكريمها في جميع أطوار حياتها وحفظت كرامتها وحيائها بفرض الحجاب عليها عند خروجها من منـزلها حتى يقطع دابر الرذيلة التي تنشأ من تبرجها وسفورها.
ولقد نبهنا النبي عن خطورتها وتبرجها فقال:" إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله تعالي مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون اتقوا الدنيا واتقوا النساء " ( 8)
-قال الذهبي – رحمه الله- في الكبائر ما مختصره:ومن الأفعال التي تلعن عليها المرأة إظهار الزينة والذهب واللؤلؤ من تحت النقاب وتطيبها بالمسك والعنبر والطيب إذا خرجت ولبسها الصباغات والأزر والحرير والأقبية القصار مع تطويل الثوب وتوسعة الأكمام وتطويلها إلى غير ذلك إذا خرجت وكل ذلك من التبرج الذي يمقت الله عليه ويمقت فاعله في الدنيا والآخرة وهذه الأفعال التي قد غلبت على أكثر النساء قال عنهن النبي صلى الله عليه وسلم: اطلعت على النار فرأيت أكثر أهلها النساء وقال صلى الله عليه وسلم: ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء. فنسأل الله أن يقينا فتنتهن وأن يصلحهن وإيانا بمنه وكرمه.اهـ (9 )
وأني احذر أهل الحل والعقد وأوصيهم أن أرادوا حقاً تطهير المجتمع بما يخالف شرع الله تعالي من الإصغاء إلي خطباء الفتنة ممن يحرضون المرآة للخروج عن حدود الله تعالي تحت عناوين براقة كالمساواة والحرية الشخصية، و إن المرآة يجب أن تعيش عصرها!! والصواب أن يقال: - يجب أن تعيش دينها، وهؤلاء هم من حذرنا منهم النبي-صل الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح عن "حذيفة بن اليمان " رضي الله عنه قال: قال النبي –صلي الله عليه وسلم- (.. دعاة إلي أبواب جهنم، ومن أجابهم أليها قذفوه فيها. قلت:- يا رسول الله صفهم لنا.فقال هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا.. " (10 )
3-الحد من الاختلاط دون ضرورة في أماكن العمل والأماكن العامة:
الاختلاط الفاحش بين الجنسيين في أي مجتمع من المجتمعات نتيجته الوحيدة انحطاط الأخلاق، وانهدام القيم والمبادئ وضياع للشرف والكرامة، وللأسف الشديد يشجع الاختلاط ويحث عليه كثيراً ممن لا يتقون ربهم من أدعياء التقدم والتمدن يريدون بذلك أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
والله تعالي يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) ( 11).
ولا يستحي الواحد منهم أن يطلق الأسماء الباطلة على الاختلاط في إفراط مذموم وتهاون بالشريعة وحدودها فتسمع من يقول باختلاط رجل بامرأة لا تحل له بأن ذلك صداقة بريئة، أو زمالة، أو نحو هذا وكله يراد به باطل وتحليل ما حرمه الله -تعالي- وكفي بقوله تعالي زجراً لهؤلاء :
وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (12).
ومن ثم من أهم الوصايا لهذا الغلو والانحراف في المجتمع بالحد منه وخصوصا في الأماكن التي تتبع مسئوليات أهل الحل والعقد أو من ينوب عنهم من الملكيات العامة للدولة أو الخاصة ممن يتقي أصحابها الله تعالي والعمل علي فصل الجنسيين عن بعضهما ووضع تصورات وآليات ذلك طالما أباحت المرأة لنفسها الخروج والاحتكاك لغير ضرورة بالرجال لأن في ظني المرأة التي تفرض عليها الضرورة العمل لضيق ذات اليد أو لأنه لا عائل لها أو لها زوج مريض لا يستطيع العمل أو غير ذلك من الأعذار المقبولة شرعاً وعرفاً فهي من أشد النساء حرصاً علي الاحتشام وعدم الاختلاط إلا لضرورة وهذه الوصية من الأهمية بمكان فليس من العقل والحكمة وضع اخطر الفتن الدنيوية شئنا أم أبينا وهي المرأة حتي لو كانت في قمة الأخلاق والآدب مع الرجال الأجانب عنها في خلوة لقوله تعالي{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ }(13 )
فهي إذاً أول مراتب الشهوات وكذلك قول النبي الواضح الصريح لمن عقل " ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء"( 14)
ثم بين-صلي الله عليه وسلم-خطورة الفتنة وحدوثها باختلاطها بلا محرم بالرجل فقال" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس معها ذو محرم منها فإن ثالثهما الشيطان" (15 )
وحصيلة كل هذا بلا مواربة انتشار حالات الاغتصاب وهتك الأعراض مما يدل ويثبت خطورة الاختلاط الموجود في المجتمع وعلى هذه الصور الفجة.
ونكتفي بما ذكرنا في هذا الجزء من بيان الوصايا الشرعية لعلاج الغلو وانحراف الفكر الاجتماعي والأخلاقي وللحديث بقية شاء الله والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل
-------------
(1 ) –الأعراف:3
(2 ) - سبق تخريجه برقم/114
( 3) - المجادلة:11
(4 ) - الزمر:9
(5) - الروم: 56
(6 ) - المجادلة: 11
(7 ) - انظر الفوائد لابن القيم الجوزية(ص/103-104)-نشر: دار الكتب العلمية – بيروت- الطبعة: الثانية، 1393 هـ - 1973 م
(8) -أخرجه مسلم في المسند الصحيح المختصر بنقل العدل عن العدل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"-(برقم/ 2742)- باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء -تحقيق / محمد فؤاد عبد الباقي- نشر/ دار إحياء التراث العربي – بيروت- الطبعة الأولي سنة/ 1374هـ 1955م.
(9 ) -انظر الكبائر للذهبي-الكبيرة الثالثة والثلاثون تشبه النساء بالرجال وتشبه الرجال بالنساء-نشر مكتبة دار البيان-دمشق-تحقيق:بشير محمد عيون-الطبعة الخامسة سنة 1418ه-1997م
(10 ) -سبق تخريجه
(11 ) - النور :19
(12 ) - النحل 116-117
( 13) - آل عمران:14
(14 ) – سبق تخريجه
(15 ) - انظر صحيح إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل(برقم/ 1813)- لمحمد ناصر الدين الالباني- نشر المكتب الإسلامي-بيروت- إشراف: زهير الشاويش -الطبعة: الثانية 1405 هـ - 1985م